فيما يحتدم الصراع الهندي - الصيني للسيطرة على شرقي وجنوبي شرقي آسيا، تحاول الهند احتواء الجهود الصينية الهادفة إلى إبقائها خارج المنطقة وتوصيفها ك «دخيلة«، من خلال إعادة إحياء امتيازاتها البوذية. المعركة مفتوحة، كل الأسلحة مباحة، وبعيداً عن الخطط السياسية والاقتصادية التكتيكية رأت نيودلهي وجوب استدعاء مؤسّس الديانة البوذية «سيدارتا غوتاما« (بوذا) من حالة النيرفانا التي يغرق فيها منذ عصور ليعود قليلاً إلى أرض الواقع ويساعدها على تحسين موقعها كقوة أساسية في المنطقة. اذاً وبكلمات أسهل، توجّهت الهند إلى بوذا كما لو أنها تتوجّه إلى سوبرمان - الرجل الخارق، فقالت: «عذراً منك أيها المرشد الروحي العظيم على مقاطعة خلوتك واستحضارك على عجل، لكننا بأمسّ الحاجة إلى جهودك الثمينة اليوم لإعادة الفاعلية إلى الحضارة الهندية، والبرهنة أنها هي أمّ الحضارات وليست متسكعة على أبواب التاريخ«. فهل تنجح الهند من خلال البوذية في تخطي المنافسة الصينية القوية في المنطقة؟ هذا ما سوف تستعرضه «أورينت برس« من خلال التقرير التالي: - من المؤكد أنّ الهند فكرت كثيراً قبل أن تطلب إلى بوذا أن يتخلى عن النيرفانا، وهي السعادة القصوى التي تتخطى الألم والتي تُلتمس في البوذية عن طريق قتل شهوات النفس، ليعود بتعاليمه ومعابده وجامعاته ويساعدها على بسط نفوذها في شرق وجنوب شرقي آسيا، بعيداً عن الخطر الصيني الداهم المتمثل في كون الصين، حالياً، الموطن الأكبر في العالم للبوذيين الذين يصل تعدادهم فيها إلى مائة مليون نسمة، رغم أنّ البوذية لم تصل إلى بكين إلا بعد عقود طويلة على ولادتها في الهند. دبلوماسية من نوع آخر، ولكنها قد تنجح خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار ان البوذية تأسست في الهند في القرن الخامس قبل الميلاد وحققت ازدهاراً كبيراً تمثل في وجود أكبر المعابد والجامعات والمراكز والنُساك البوذيين فيها. إعادة إحياء البوذية اليوم، تبرز أمام نيودلهي تحدّيات جمّة، أبرزها إعادة بث الحياة في الديانة البوذية ومراكزها في الهند، لفرض سيطرتها، إذ ان البوذية وبعدما حققت رواجاً واسعاً في الهند بدأت بالتراجع تدريجاً فيها مع مرور الوقت، لكنها انتشرت عبر الدول الآسيوية المجاورة مستقطبة الكثيرين من سريلانكا، والنيبال، وتايلند، ولاوس، وكمبوديا، وميان مار، وفيتنام، واليابان، وكوريا، والتيبت، ومنغوليا، وبالتأكيد أو بالأحرى وبالأخصّ الصين، وذلك لأن النُساك البوذيين سافروا إلى مناطق عدّة لنشر ديانتهم، علماً ان أكبر الجامعات والمعاهد والمعابد البوذية بقيت إلى اليوم متمركزة في الموطن الأم للديانة البوذية، أي الهند. ورغم أن الهند تعوّل الكثير على بوذا وديانته، فإن الحقائق تشير إلى أنه لم يكن هندياً بل انه وُلِد في النيبال، إلا أن أكثر مراحل حياته عاشها في الهند بما فيها مراحل الوصول إلى النيرفانا. جامعة تاريخية من أولى الخطوات التي تتخذها نيودلهي على طريق إعادة إحياء البوذية، هي بذل جهود عملاقة لبناء جامعة «نالادا« مرة أخرى، وهي جامعة كانت في وقت من الأوقات معلماً لدراسة البوذية وسائر الفنون إضافة إلى علوم اللغة والفلك والسياسة قبل أن تحتضر في نهاية القرن ال12 بعد الميلاد، بعدما كانت تُعتبَر من المراكز البوذية الأساسية في العالم. ومع أنّ الهند ترغب في إعادة تشييد هذا الصرح الذي كان على أراضيها بمفردها، إلا أن الصين لم تأل جهداً للمشاركة في إعادة بنائه من جديد وذلك لكي تؤكد أهمية روابطها مع الديانة البوذية. وبالتأكيد لم تستطع الهند أن ترفض المساعدة ولكنها تشعر بفخر عارم لأنها الممسكة بزمام المبادرة والمشروع لكون الصرح البوذي على أراضيها. علاقات سيئة وهنا تجدر الإشارة إلى أن الصين تحاول دائماً تلميع صورتها كمركز للديانة البوذية وقد جهدت في إعادة تشييد المعابد البوذية على أراضيها التي دمرت خلال الثورة فيها، كما أنها وخلال العام المنصرم استقبلت المرة الأولى أول منتدى عالمي للبوذية في هانغزو الذي ضمّ نسّاكا بوذيين وجامعيين من 37 دولة مختلفة. ولكن بكين تواجه عوائق كبرى في الحفاظ على هذه الصورة، خصوصاً أنها المتسببة في تدمير البوذية في التيبت بحسب وجهة نظر الكثيرين بعدما احتلته، كما أنها المسؤولة عن هرب الدالاي لاما، وهو المرشد البوذي الأوّل لدى البوذيين في التيبت، إضافة إلى ملايين اللاجئين من التيبت إلى الهند خوفاً من البطش الصيني. وهي نقطة تسجل للهند وتساندها كثيراً في إعادة إحياء البوذية على أراضيها وتثبيت نفسها كالمركز الأول للبوذية في العالم، مع ما يتبع ذلك من ترسيخ لنفوذها في الكثير من الدول المجاورة التي تعتنق البوذية. وفي السنوات الخمس الماضية، بدأت الهند تحارب لاسترجاع مكانتها البوذية ومركزها كأمّ الحضارات وليس كدخيلة كما تزعم الصين. ولهذه الغاية، لم تكتفِ بتشييد الصروح البوذية على أراضيها، بل شيّدت معبد «بايما« في الصين وفقاً للطراز الهندي، وذلك للدلالة على أن النسّاك البوذيين انتقلوا من الهند إلى الصين وليس العكس. إذاً، وبعيداً عن الصراع السياسي والعسكري والاقتصادي بين بكين ونيودلهي الذي تسعى من خلاله الدولتان إلى إثبات تفوّقهما وسيطرتهما على جنوب شرقي آسيا، يبرز اليوم الصراع على «ملكية البوذية«، وذلك لمعرفة مَن من الدولتين هي «أمّ الحضارات«.