فعلا لمصر خصوصيتها .. ثورة من أجل دولة مدنية تأتي للسلطة بجماعات دينية ..هذه هي قمة المفارقة ، التي يتوقف عندها المرء ، وهو يقلب فيما أخرجته لنا صناديق الاقتراع ، في أول انتخابات برلمانية ما بعد ثورة يناير . وقد يري البعض أنه من المبكر القطع بأغلبية برلمانية إخوانية وسلفية ، ونحن لم نزل بعد في أولي مراحل العملية الانتخابية ، ولكن بقراءة بسيطة لمحافظات المراحل القادمة ، سنجد أن ما خفي كان أعظم ، فالاكتساح متوقع لحزبي " الحرية والعدالة و" النور " ، وبنسب أعلي من مثيلاتها في محافظات " معاقل " السادة الليبراليين التسع ، حيث دعاة الدولة المدنية وأنصار الفصل بين الدين والسياسة ! وعودة للمفارقة الرهيبة ، وفي محاولة متأنية لتفسير ما حدث ، سنتوقف عند اللاعبين الرئيسيين ، أو أطراف العملية الانتخابية الخمسة الكبار ، الذين صنعوا المفارقة ، ولن نقول الحدث كل علي طريقته ، وبترتيبهم حسب عظم حجم مسئولية كل منهم : المجلس العسكري ، ثم النخبة ، ثم شباب التحرير ، ثم الشعب ، ثم آخرهم الإخوان والسلفيون . بالنسبة للمجلس العسكري نستطيع أن نقول أنه المسئول الأول عن صعود الإخوان والسلفيين ، لا لأنه رفع عنهم الحظر الجائر ، فهذا أمر محمود ، ولكن لأنه فتح لهم أحضانه ،كما لم يفتحها لأحد ، لاستخدامهم كرأس حربة في ظهر الميدان ، عندما تدعو الحاجة ، فسارعوا بالارتماء في أحضانه ، لانتزاع كل ما يمكنهم من تنازلات ، ساعدتهم في الحركة بحرية ، للسيطرة علي الشارع ، ولعل من بين من أعطوهم صوتهم ، فعلوا ذلك لتوهمهم بأنهم مع ذلك الاستقرار ، الذي يدعو إليه المجلس العسكري ، وليسوا مع شباب الميدان " مثيري الشغب " !! ثم نأتي للمسئول الثاني عما حدث وهم النخبة بجميع فصائلها غير المستنيرة أو الانتهازية أو الموالية للسلطة أو الخادمة لها تطوعا أو بناء علي طلبها . وتشمل النخبة هنا من يطلق عليهم زعماء الرأي ، والمثقفين والأحزاب ومرشحي الرئاسة وغيرهم من القوي السياسية . هذه النخبة التي قفزت علي ثوار الميدان ، وراحت تتاجر بهم ، وتتحدث باسمهم ، وتنام الليل في أسرتها ملء جفونها ، ثم تزور الميدان - النازف دما - لإلقاء الخطب ، والتقاط الصور التذكارية ، ثم العودة للنعيم المقيم ، هذه النخبة كانت أشبه بمن كان يمني النفس بأن يكون مطربا ، ولكن صوته لم يساعده ، فراح يغني في الحمام ، فلا يسمعه أحد .والحمام هنا هو الفضائيات والمؤتمرات ، حيث يتحدثون لبعضهم - كما لو كانوا يتحدثون لأنفسهم - ومن ثم تركوا الشارع للإخوان والسلفيين ، الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف ، فعزفوا علي معاناة الناس ، وبرعوا في الغناء ، واستحسن الشارع صوتهم . ونأتي إلي شباب الميدان ، الذين انخدعوا بزيارات السادة الحالمين بكعكة الثورة ، ممن توسموا فيهم التعبير عن أهداف ثورتهم ، فراحوا ينفعلون بلغة خطابهم ، وكلما وثقوا في أحدهم ، عادوا ليدركوا خطأهم ، وفي الوقت الذي استمروا فيه في نزيف الدماء ، لم يكن مرشحوهم علي المستوي اللازم لإدراك النجاح في الانتخابات ، بعد أن تشتتوا وتشرذموا ، وتم استقطاب معظمهم ، خارج الميدان ، لينطبق علي ثورتهم المثل العامي الشائع بتحريف بسيط " من كترت ائتلافاتها بارت " .والخلاصة أن الميدان الذي تم خداعه قد ساهم دون أن يدري في صعودالسلفيين والإخوان . وعندما نأتي لدور الشعب في المفارقة التاريخية » ثورة من أجل دولة مدنية تأتي للسلطة بجماعات دينية« سنجد أن قطاعات كبيرة منه لم تسلم تحت وطأة الحاجة ، وبالمنطق الانتهازي ، الذي رفعته أيام مبارك ، الذي وسع دائرة الفساد المجتمعي " اللي تغلب به العب به " ، وفي غياب دور الدولة ، أمام عطايا الإخوان والسلفيين ، وليس إيمانا ببرنامجهم ، أو تصديقا لدعوتهم " أنبوبة بوتاجاز " ، " كيلو لحمة " ، " مساعدة مالية " ، علاج مريض " ، كان من الطبيعي أن تعطي هذه القطاعات أصواتها للإسلاميين ، ناهيك عن شعار روجوا له في الشارع ، ووجد صدي - ويا للغرابة - وسط أوساط قطاعات عريضة من الليبراليين والمثقفين " طب منجربهم ونشوف .. ليه لأ " ؟! المسئول الأخيرعما حدث هم الإخوان والسلفيون المنظمون والممنهجون والمتمرسون والقادرون ، الذين وضعوا لافتات سياسية فوق صدور مرشحيهم ، كجواز مرور لبرلمان الثورة ، وحتي إشعار آخر ، ووجدوا كل اللاعبين الأساسيين إما متعاونين أو مغيبين ، فانطلقوا في الشارع الموالي ، أو المغيب ، أو الانتهازي ، كما يحلو لهم ، فتم لهم ما أرادوا . السؤال الآن : ماذا سيفعل هؤلاء اللاعبون وقد أصبح الإخوان والسلفيون قاب قوسين أو أدني من السيطرة علي برلمان الثورة ؟ المجلس العسكري فوجئ بالإخوان يخرجون عن قواعد اللعبة ، ويتنكرون للتعديلات الدستورية ، التي وافقوا عليها بقوة ، وعادوا بعد الفوز ليطالبوا بتشكيل الأغلبية البرلمانية للحكومة ، دون انتظار ما بعد انتخاب الرئيس ، كما تقضي التعديلات ، لن يستجيب المجلس لهم ، ولكنه سيتفادي الصدام ، لأنه يعرف كيف يحتويهم وإلا ! أما النخبة فلن تفعل سوي الاستمرار في الغناء في الحمام لأن صوتها لا يطرب الشارع ، ومن الصعب تحسينه بالتدريب ، لأن ذلك يتطلب وقتا ، ويمكن تأجيله لما بعد الانتخابات ! أما الشعب فسوف تستمر قطاعات كبيرة منه في دعم الإخوان والسلفيين انتخابيا ، ليس بسبب خلفيات دينية ، وإنما كشكر علي العطايا ، أو علي سبيل التجربة ! وأخيرا الإخوان والسلفيون ، ولن يأتوا بجديد ، وسيستمرون علي نفس النهج ، عملا بالقول المأثور " ليس بالإمكان أحسن مما كان " ! وهكذا ستكون محصلة الانتخابات في نهاية المطاف " ثورة من أجل دولة مدنية تأتي للسلطة بجماعات دينية " .. رحم الله شهداء الثورة !!