يخطئ الإخوان المسلمون والسلفيون وغيرهم من التيارات الدينية إذا ظنوا أنهم بحشودهم التى حشدوها بميدان التحرير فى جمعة 29 يوليو.. مرددين الشعارات الإسلامية.. سوف يتمكنون من الاستحواذ على ثورة 25 يناير والانفراد بالساحة السياسية، ويخطئون أيضاً إذا ظنوا أنهم نجحوا فى خداع جموع المصريين بأنهم الأغلبية أو حتى الأكثرية. واقع الأمر أنهم الأكثر تنظيماً والأكبر قدرة على حشد الجموع من أتباعهم، ولكن الحقيقة أنهم ليسوا الأكثر عددا، بل إنهم أقل بكثير مما يروجّون، وهو ما سيتضح جليا فى الانتخابات التشريعية المرتقب إجراؤها فى شهر نوفمبر المقبل. أما حصولهم على (88) مقعدا من مقاعد مجلس الشعب فى انتخابات عام (2005) وبنسبة (20%) من المقاعد، فإنه كما نعلم لم يكن تعبيرا حقيقيا عن قوتهم السياسية أو شعبيتهم فى الشارع المصرى بقدر ما كان نتيجة للتصويت الاحتجاجى على النظام السابق وحزبه المنحل ولصالح مرشحيهم، خاصة فى غيبة أحزاب معارضة قوية، وحيث كانت تلك الأحزاب بالغة الضعف والهشاشة، ليس بفعل قبضة النظام القمعية وتضييقه على المعارضة فحسب، وإنما أيضاً بحكم غياب الديمقراطية داخل تلك الأحزاب ذاتها! وإذا كان من غير الممكن إغفال أن ديكتاتورية النظام السابق وآلته الأمنية شديدة الشراسة وسياساته وممارساته الفاسدة قد حالت دون إقامة حياة سياسية ديمقراطية فى انتهاك غاشم للدستور (السابق) الذى كان ينص على أن النظام السياسى فى مصر يقوم على التعددية الحزبية، فإنه لا يخفى أيضاً أن أحزاب المعارضة وفى مقدمتها الأحزاب الكبرى الرئيسية ارتضت مقابل مصالح ضيقة وشخصية لقياداتها أن تلعب أدوار «الكومبارس» فى التمثيلية الديمقراطية. خلاصة القول هى أن ديكتاتورية النظام السابق وسياسات الحزب الوطنى المنحل وحكوماته المتعاقبة وآلته الأمنية القمعية وهشاشة أحزاب المعارضة.. كلها كانت عوامل استمرار وبقاء النظام السابق وهيمنة حزبه على البرلمان بانتخابات مزورة طوال ثلاثين عاماً، وكانت أيضاً وراء اختراق «الإخوان» للبرلمان فى عام (2005) بذلك العدد الكبير نسبيا من المقاعد ولأول مرة فى تاريخ الحياة النيابية فى مصر. غير أنه لا يخفى أن حصول «الإخوان» على ذلك العدد الكبير من المقاعد البرلمانية حتى لو كان نتيجة لتصويت احتجاجى، لم يكن رغما عن النظام السابق وحزبه ولم يكن أيضاً تعبيرا عن نزاهة تلك الانتخابات، ولكن الحقيقة هى أن النظام الذى احترف ودأب على تزوير الانتخابات هو الذى سمح بتمرير تلك النتيجة لاستخدامها كفزاعة للغرب وخاصة الولاياتالمتحدة للتوقف عن مطالبة الرئيس المخلوع بالتحول الديمقراطى، باعتبار أن الديمقراطية سوف تأتى بجماعة الإخوان والجماعات الدينية المتطرفة إلى سدة الحكم وهو الأمر الذى يعنى أن تتحول مصر من دولة حليفة لأمريكا إلى دولة معادية لها ولاتفاقية السلام مع إسرائيل! بل إن النظام السابق ظل يستخدم هذه الفزاعة.. فزاعة «الإخوان» والتيارات الدينية المتطرفة فى الداخل أيضاً فى مواجهة مطالب القوى السياسية والنخب الثقافية بالتحول الديمقراطى والتداول السلمى للسلطة، وتلك الفزاعة كانت الخدعة الكبرى التى ظل النظام السابق يروج لها من أجل تأبيد بقائه فى الحكم. *** ولذا فإنه مما يعدّ مدعاة للدهشة ومدعاة أيضاً للاستياء هى تلك الانتهازية السياسية التى تمارسها التيارات الدينية وفى مقدمتها جماعة الإخوان والتى من المفترض أنها لا تزال محظورة قانونا، إذ لم يصدر قانون جديد أو مرسوم بقانون برفع الحظر عنها، وهى الانتهازية السياسية التى تبدّت بوضوح بعد نجاح الثورة ثم تجّلت بفجاجة فى جمعة (29 يوليو) فى محاولة مفضوحة لسرقة الثورة والسطو على مكتسباتها بهدف التسلّق على السلطة فى نهاية المرحلة الانتقالية. إنه لم يمضْ وقت طويل كى ننسى أن قيادات التيارات الدينية وفى مقدمتها الإخوان كانت فى البداية ضد الثورة أو على الأقل لم تشارك فى فعالياتها، بل لقد أفتت بعدم جواز الخروج على الحاكم حتى لو كان ظالما!، ثم سرعان ما انضموا إليها بعد أن تيقّنوا من نجاحها واقتراب سقوط النظام. ولذا فإن ما فعله الإخوان والسلفيون فى جمعة (29 يوليو) والتى كان هناك توافق وطنى على أن تكون جمعة «لم الشمل» وتوحيد صفوف كافة التيارات والفصائل السياسية وائتلافات الثورة للتأكيد على مدنية الدولة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. لذا فإن ما فعلوه كان نقضا للعهد والاتفاق مع بقية قوى الثورة وخروجا على الإجماع الوطنى وانتهاكا لأهداف الثورة ومطالبها ومكتسباتها. إن رفع الشعارات الدينية وترديد هتاف.. إسلامية.. إسلامية وغيره من الهتافات تحت العَلَم السعودى فى جمعة «لم الشمل» كشف بوضوح انتهازية تلك الجماعات الإسلامية المتطرفة.. السياسية وابتزازها للمشاعر الدينية بقدر ما كشف فى نفس الوقت عن توجهاتها الحقيقية فى تبنى «أجندة» سياسية دينية متطرفة خارج سياق الثورة وعلى النحو الذى يمثل خطراً داهماً على ثورة الشعب المصرى ضد ديكتاتورية النظام السابق، باعتبار أن هذه «الأجندة» تنذر بخطر الديكتاتورية الدينية التى لا تقل خطراً وبشاعة عن ديكتاتورية ذلك النظام وغيره من الأنظمة الشمولية والفاشية. *** إذا كان هذا هو مسلك الإخوان والسلفيين وهم خارج الحكم لإقصاء كل القوى والتيارات السياسية وفرض أجندتها على الثورة التى لم تشارك فى صنعها بل إنها استمدت شرعية عودتها إلى الحياة السياسية من شرعية هذه الثورة.. فماذا سيحدث لو وصلوا إلى سدة الحكم بالفعل؟! هذا هو السؤال الذى يتردد فى الشارع المصرى الآن ويثير توجّس القوى والنخب والتيارات السياسية، ولأن الإجابة عنه تبدّت فى جمعة (29 يوليو) مبكراً، حيث كشفت التيارات الدينية عن ديكتاتوريتها وانتهازيتها، فإن رُبّ ضارة نافعة، إذ بدا لجميع المصريين على اختلاف وتباين توجهاتهم وثقافاتهم خطر هؤلاء المتطرفين الذين يمثلون أكبر إساءة للإسلام على الثورة وعلى ديمقراطية الدولة. لقد خسر «الإخوان» والسلفيون وغيرهم من الجماعات المتطرفة خسارة فادحة بمسلكهم الفاضح فى جمعة (29 يوليو) الذى أضرّهم بأكثر مما أضر كل القوى السياسية الأخرى، إذ أن ما فعلوه بغباء سياسى - يستحقون الشكر عليه - فى تلك الجمعة صدم الرأى العام وأفزع جموع المصريين، ومن ثم فقد خسر الإخوان والسلفيون الانتخابات البرلمانية المقبلة قبل إجرائها.. يوم أن ظنوا أن احتشادهم واستعراض قوتهم واحتكار المشهد فى ميدان التحرير سوف يضمن لهم الفوز الساحق والاستحواذ على البرلمان الجديد والحكومة المقبلة. *** لقد غاب عن الإخوان والسلفيين أن الشعب المصرى رغم هويته الإسلامية الحضارية التى تتسع لكل الأديان.. لن يسمح بقيام دولة دينية فى مصر على غرار إيران ولن يسمح أيضاً وحسبما سبق وأكد وتعهّد المجلس الأعلى للقوات المسلحة بوجود خمينى آخر فى مصر. *** لقد قامت ثورة 25 يناير من أجل إقامة دولة القانون وتحقيق الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، ولذا فإن شعار «إسلامية.. إسلامية» الذى رفعه الإخوان والسلفيون يهبط بسقف مطالب الثورة إلى أفق سياسى ضيق وخطير، بينما الشعار الصحيح الذى يتعيّن أن يرفعه المصريون جميعا ورغم أنف «الإخوان» هو: ديمقراطية.. ديمقراطية وعدالة اجتماعية، وهو شعار ومطلب لا يتعارض على الإطلاق مع الهوية الإسلامية الحضارية لمصر.