مليونية الجمعة الماضية نوع من »الحنجلة التي تسبق الرقص« إذ إن الصدام واقع لا محالة بين الفاشية الدينية وبين القوي الديمقراطية، لكن المسألة المصرية أكثر تعقيدا من هذا، فبسبب التخبط الذي ساد الحياة السياسية في الفترة الماضية فان القوي الفاشية هي التي تريد ان تتحكم في الشعب وهي التي ترفع شعار العودة إلي الشعب وهي كلمة حق يراد بها باطل، لان الشعب لم يستطع ان يستوعب ان يأخذ الفترة الكافية كي يتفهم البرامج السياسية للقوي المختلفة. ومن ناحية أخري فان القوي الديمقراطية تدعو إلي ان تكون كل طوائف الشعب ممثلة رمزيا في لجنة وضع الدستور، وهو رأي له وجاهته لان الدستور من المفترض ان يرسم معالم المستقبل لمصر في المائة عام القادمة، فالدستور يقرر مبادئ عامة ويحدد شكل الدولة واختصاصات رئيس الجمهورية والحكومة والبرلمان. علي ذلك فان مجلس الشعب المنتخب تنقضي دورته البرلمانية بعد أربع سنوات أو خمس سنوات وليس مقبولا ان يضع معالم المستقبل لاجيال لم تولد حتي الآن، وعلي ذلك فان ما تلجأ إليه القوي السلفية والإخوان المسلمون من ترديد الاحتكام للشعب تتضمن خداعا شديدا، لان مجلس الشعب المقبل سوف يتم انتخابه علي أسس عائليةوقبلية وسوف تلعب الثروة المالية دورا حاسما في اختيار أعضائه، وعلي ذلك فان من المتوقع ان يصل إلي مجلس الشعب من يملك الثروة، ويرتبط بتنظيم قديم مثل الإخوان المسلمين والسلفيين، ويجب علينا الا ننسي ان من ينتخب بالمال للبرلمان يختلف في ثقافته وفي قدرته علي وضع المشاركة في وضع دستور عمن ينتخب للجنة تأسيسية تكون مهمتها وضع الدستور، فجميع الطوائف يجب ان تكون ممثله حينما يختار لجنة تأسيسية لوضع الدستور، وذلك أمر لا يخيف إلا من كان في قلبه مرض أو اراد ان يعرقل مسيرتنا الوطنية، فالخدعة التي يستعملها السلفيون والإخوان تحت اسم المبادئ الدستورية التي تم الاستفتاء عليها هو ادعاء يحمل وجها ديمقراطيا، لكنه يخفي جسدا فاشيا يقوم علي الانانية، وعبادة الذات واقصاء ونفي الآخر، وتلك سمات التصقت بالاحزاب الدينية في كل بقاع العالم وعلي امتداد المراحل التاريخية. ان أي محاولة لوضع دستور يتحيز إلي فئة أو يستغل القلق العام الباحث عن الاستقرار لكي يضع بصماته علي دستور ليحكم اجيالا قادمة لطوائف متعددة وعقائد متعددة، انما هو يلعب بالنار ويسعي إلي تفتيت المنظومة الوطنية، وفي هذا الإطار سوف نتعامل مع مليونية الجمعة الماضية التي حشدت الناس حشدا تحت شعار استرداد وتسليم السلطة من المجلس العسكري إلي سلطة مدنية، بينما هدفها الأساسي هو استغلال الحرارة الثورية والسخط العام علي الفترة الانتقالية لكي يقذف بنا مرة اخري في جحيم الحكم الشمولي. اننا سوف نعتبر ان مليونية الجمعة الماضية هي دق لطبول الصدام المتوقع بين قوي دينية وقوي الإسلام السياسي والقوي الديمقراطية وهو تصرف يتسم بعدم المسئولية، فإذا كنا استطعنا انجاز ثورتنا دون ان نقع في حرب أهلية، فإن تحريك الآلاف بالشكل الذي تم أول أمس الجمعة هو لعب بالنار ودفع للأحداث إلي صدام افلتنا منه سابقا وندعو الله ان يحرس ثورتنا من ان تقع فيه الآن. كان علي القوي التي نزلت إلي ميدان التحرير أول أمس الجمعة ان تراجع المبادئ العامة لوثيقة المبادئ الدستورية الحاكمة »وثيقة السلمي« التي لا تزيد عن كونها مبادئ حارسة تمنع انحياز واضعي الدستور إلي مذهب سياسي معين أو إلي طبقة اجتماعية معينة، لكنهم قوم غرتهم قوتهم واعتقدوا انهم يستطيعون توجيه التاريخ، وصناعة الأحداث عن طريق التضليل والخداع وحشد الأتباع. اننا لا نملك ترف اهدار الوقت والطاقة في مليونيات عابثة تتحدي المصالح الوطنية وتتحدي القيم الديمقراطية، وتريد ان تستأثر بالسلطة، وان تقصي بقية الجماعة الوطنية. فلينتبه كل من ينزل إلي ميدان التحرير، أو يفكر في النزول لميدان التحرير وليسأل نفسه: هل هذا الحشد في صالح المسيرة الوطنية أم انه ضد المصلحة الوطنية؟ لقد تم ادخال تعديلات جذرية علي الوثيقة بمجرد اعلان بعض الاراء في موادها، وكان من الممكنب ان يكون الاعتراض علي أي مواد يرونها ماسة بالرقابة الشعبية علي القوات المسلحة بدلا من محاولة نسف الوثيقة بكاملها.. ان رفض أي فصيل سياسي للوثيقة لا يعني عدم التوافق عليها لانه لا يستطيع أي تيار أو حزب سياسي احتكار الرأي أو السلطة. وليرتفع كل منا فوق ذاته قليلا حتي يستطيع ان يري ان قوته تكمن في وحدة الصف الوطني وانه في كل يوم يمر دون ان نقترب من وضع دستور يعني مزيدا من الخسائر لاقتصادنا الوطني الذي هو مرهق اصلا بما اصابه من نهب استمر طوال عدة عقود. اننا نطالب الجماعة الوطنية ان ننظر بعين المسئولية إلي قضايانا الوطنية واوجاعنا الاقتصادية وان تسارع في انجاز قضية الدستور علي أسباب وأسس توافقية لا يغتر احد فيها بقوته، ولا ينسي ان هناك اقليات دينية، وان هناك طبقات اجتماعية مثل العمال والفلاحين الحقيقيين فعلا الذين إذا أمكن خداعهم اليوم بشعارات تحمل معني الحرية والعدالة، فانه سريعا، ستكتشف تلك الطبقات انها لم تحصل علي الحرية ولم تتحقق لها العدالة!