في 62 يناير 2591.. اندلعت الحرائق في ممتلكات الاجانب ومتاجرهم الكبري.. ودور العرض السينمائية.. وحانات الرقص والخلاعة الكائنة في وسط البلد.. في الوقت الذي جرت فيه عمليات النهب والسلب في ضواحي العاصمة.. وتم الاعتداء علي اقسام الشرطة.. واهدرت هيبة الدولة بشكل لم تكن تعرفه مصر.. وكان الهدف هو الاعلان عن قوة جديدة.. تسعي لحصول رجالها علي النصيب المناسب من السلطة. في 62 يناير.. اندلعت الحرائق ابتداء من الساعة الثانية عشرة ظهرا في سينما »ريفولي« التي كانت تعرض فيلم »مطاردة الجاسوس«. واندلعت النيران لعنان السماء في بنك »كوك« الملاصق لفندق شبرد.. فاحترق البنك والفندق.. واحترقت عمارة شبرد بالكامل. واندلعت النيران في مكاتب شركات الطيران الاجنبية وفي متجر داود عدس »عمر افندي« فاحترق المحل.. واحترقت معه العمارة التي تعلوه.. وامتدت الحرائق لمتجر »العروسة« الذي كان يبيع الاثاث للمقدمات علي الزواج .. وبناء عش الزوجية. وفي الساعة الواحدة و62 دقيقة احترق محل »اوريكو« بأكمله في ساعة واحدة. ولم يتوقف رنين تليفونات الاستغاثة بمطافيء العتبة لحظة واحدة وفاقت الحرائق قدرات مطافيء العتبة.. اذ لم تكن مطافيء القاهرة تتوقع اندلاع كل هذه الحرائق دفعة واحدة.. وخلال ساعات معدودة .. وقالت التقارير الامنية ان 09٪ من الحرائق تركزت في دائرة ضيقة بلغ فيها التدمير الحد الاقصي. وهاجم المتظاهرون اقسام الشرطة ورشقوها بالحجارة.. ولا سيما قسم شرطة بولاق.. حيث كان المأمور ايامها هو البكباشي عبدالفتاح حسن.. الذي كان قد غادر المأدبة الملكية التي كان قد دعا اليها الملك فاروق في الساعة الثالثة من بعد الظهر.. وتوجه لمكتبه ليكتشف الكارثة.. وخرج مع معاون القسم اليوزباشي كمال عبدالعال للمرور علي دائرة القسم.. وقال في التحقيقات انه فوجيء بالجزء التابع للقسم في شارع فؤاد بوجود مجموعة كبيرة من المتظاهرين يقودهم شخص اطلق لحيته يحاولون كسر باب احدي الحانات في شارع فؤاد »62 يوليو الآن«. وتوالت الانباء عن هجمات متفرقة علي اقسام الشرطة في الزمالك وعابدين ومصر الجديدة وحدائق القبة والوايلي والزيتون والسيدة زينب. واذاع وزير الداخلية احمد مرتضي المراغي بك بيانا عن طريق الاذاعة »طبعا« قال فيه ما يلي: انهم يقولون دائما ان الدول تكسب حروبها العالمية الكبري ليس فقط بتدعيم جبهات القتال بالجنود والقنابل والمعدات.. وانما قبل ذلك كله بتدعيم الجبهة الداخلية للدولة المحاربة.. بالامن.. والنظام.. وانا اقول ان هذا صحيح.. ليس فقط بالنسبة للحروب العالمية.. بل بالنسبة للقضايا الوطنية.. اذ يجب ان تكون الجبهة الداخلية مصونة.. قوية.. ولهذا اقول انني لن اتوقف دقيقة واحدة امام اي اجراء اراه لازما لصيانة الامن والنظام.. لان معناهما الآن بالنسبة لنا.. هو.. مصر ومستقبلها. انتهي كلام وزير الداخلية احمد مرتضي المراغي.. وهو كلام لم يختلف عليه احد.. لا.. زمان ولا الآن.. وتشكلت في وزارة الداخلية فرقة خاصة.. ليس لها سوي مهمة واحدة.. وهي مكافحة اعمال الشغب.. وجري اختيار عناصر هذه الفرقة.. وفق قواعد تتعلق بالقوة البدنية.. والقدرة علي البطش.. بحيث اذا وقعت عين المشاغب علي احدهم.. استغاث علي الفور وقرأ علي نفسه الفاتحة.. وكان الهدف هو استعادة الدولة لهيبتها التي تأثرت الي حد كبير بحريق القاهرة. هذا علي الجانب الأمني.. الذي يطول فيه الكلام.. اما علي الجانب السياسي فقد تشكلت حكومة جديدة برئاسة علي باشا ماهر.. الذي اجري اتصالات بقيادات جماعة الاسلام السياسي.. وابلغهم بما عرف عنه من دهاء.. بأنه كان يتمني ان تضم وزارته بعض رموز هذه الجماعة.. إلا انه يري ان اشتراكهم في الظروف الحالية.. وبعد حريق القاهرة.. سوف يثير الانطباع بأنهم كانوا وراء الحريق الذي لقي الاستنكار من جانب جميع فئات الشعب.. وانه.. حرصا منه علي سمعة الجماعة.. فسوف يختار عددا من كبار علماء الازهر الشريف.. وليس من رموز جماعة الاخوان. وبالفعل ضمت وزارة علي ماهر ثلاثة من ابناء كبار المشايخ.. وفي مشاهير رجال الازهر وهم مرتضي المراغي وزير الداخلية.. وهو ابن الامام الاكبر الشيخ المراغي.. وعبدالخالق حسونة وزير المعارف وهو ابن الشيخ حسونة النواوي.. وسعد اللبان بك.. وهو ابن الشيخ عبدالمجيد اللبان.. اما وزير العدل في هذه الوزارة فكان محمد علي نمازي.. وهو من اصل ايراني.. وكلمة »نماز« باللغة الفارسية تعني »الصلاة« .. ونمازي تعني المصلي.. ومعني الاسم هو : محمد علي الذي يصلي! وقامت النيابة العامة بالاستماع للمئات من شهود العيان الذين اشاروا الي ان قادة الحرائق كانوا من الاسلاميين الملتحين.. وانهم كانوا يرددون الهتافات التي تدعو للقضاء علي البدع المدنية التي الهت الناس عن دينهم ومشايخهم ويستخدمون بدعة الكهرباء.. بدلا من شموس الضياء المشرقة!! وتبارات الصحف ايامها في نشر اقوال الشهود.. وجرت علي السنة الناس العديد من الحكايات حول دوافع الحريق.. ومن بينها علي سبيل المثال ان هدف الحريق.. هو نزول الجيش وقواتنا المسلحة الغاضبة من هزيمة فلسطين سنة 8491 الي الشوارع.. لاجبار الحكومة المصرية علي تحسين اوضاع الجيش. ودارت الايام.. ولم تخرج علينا حكومة علي ماهر بأسماء العناصر المتورطة في حريق القاهرة.. الي ان قامت حركة الجيش في يوليو من نفس العام. في ليلة الثورة.. كانت جميع الحركات والمنظمات السرية التي تضم كل اطياف العمل السياسي.. تتجمع في تلك الليلة ابتداء من الجماعات الاسلامية واليسارية.. والشيوعية.. وحتي الوان الطيف الوطني الذي لا ينتمي لجبهة محددة وكان هو التيار الاكثر تنسيقا.. بزعامة جمال عبدالناصر. كان قوة هذا التيار الوطني.. تعتمد علي اسم اللواء محمد نجيب الذي فاز في انتخابات نادي الضباط بأغلبية كبيرة.. علاوة علي انه كان يحمل رتبة لواء.. بالاضافة الي ان محمد نجيب استطاع استقطاب التيار الاسلامي في الجيش الذي كان يتزعمه القائمقام رشاد مهنا. كان رشاد مهنا يتمتع بشعبية كبيرة وكانت مجموعته تضم كبار الرتب العسكرية.. وعند عودته للقاهرة قادما من العريش.. استقبله عدد غفير من الضباط.. الامر الذي كشف عن قوته وقدرته علي تغيير مسار حركة الضباط الاحرار برئاسة البكباشي جمال عبدالناصر.. مما اثاره الحساسيات ضده. لم يكن من السهل التخلص من رشاد مهنا.. الا بتصعيده بتولي احد المواقع المدنية.. لابعاده عن الجيش.. وتصفية مجموعته بعد ذلك.. وكان هذا الموقع هو ان يتولي الوصاية علي العرش مع الامير محمد عبدالمنعم.. وبركات. ولكن رغم تولي رشاد مهنا موقع الوصي علي العرش بعد تنازل الملك فاروق عن العرش لابنه احمد فؤاد فإنه كان يحضر اجتماعات مجلس قيادة الثوة برئاسة اللواء محمد نجيب.. في اول اجتماع حضره القائمقام رشاد مهنا.. سأله الصاغ صلاح سالم بنبرات الاستنكار. - انت ايه اللي جابك؟ اجاب رشاد مهنا: - انا عضو في قيادة الثورة! قال صلاح سالم: - طب ماجبتش معاك الامير محمد عبدالمنعم.. ليه.. ما وهو وصي علي العرش زيك؟! تطلع رشاد مهنا الي اللواء نجيب فوجده صامتا ولم ينطق بكلمة واحدة.. وكذا جميع اعضاء المجلس.. فخرج.. غاضبا.. وجرت محاكمته في بدروم السجن الحربي وصدر ضده حكم بالاعدام.. جري تخفيفه الي المؤبد وليس ذلك موضوعنا. اعود الي حريق القاهرة فأقول ان هذا الحريق.. القي بظلاله علي العلاقة بين جمال عبدالناصر.. وتيار الاسلام السياسي.. وبدأ بقبول ثلاثة من رجال هذا التيار في اول وزارة من بينهم وزير العدل احمد حسني ووزير الاوقاف حسن الباقوري.. ثم توالت الاحداث بعد ذلك الي حد الصدام السافر.. بعد محاولة الاغتيال الفاشلة بميدان المنشية بالاسكندرية. مفهوم طبعا.. ان الدنيا تغيرت.. وعالمنا اليوم لم يعد كما كن عليه الحال سنة 2591 ولكن يبدو مما نراه هذه الايام.. والتهديد بالمليونيات.. وتصاعد العنف في المحافظات ان البعض منا لم يتعلم.. لسبب بسيط هو ان تاريخنا الحقيقي لم يكتب بعد. المليونيات سوف تتوقف.. عندما نكتب تاريخنا الحديث.. بأمانة!