تفاصيل اعلان وزارة الداخلية قبول دفعة جديدة بمعاهد معاوني الأمن.. فيديو    تراجع جديد في أسعار الريال السعودي مقابل الجنيه بختام تعاملات اليوم الأحد    «حماس» تثمن إعلان مصر الانضمام لجنوب أفريقيا في اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية    فيفا لانحاد الكرة: أزمة الشحات والشيبي شأن داخلي    مجانا وبدون تقطيع .. مباراة الزمالك ضد نهضة البركان بث مباشر | نهائي كأس الكونفدرالية 2024    يوفنتوس بالقوة الضاربة في مواجهة يوفنتوس بالدوري الإيطالي    جنايات شبرا تعاقب المتهم بقتل جاره بالقناطر الخيرية    «ثقافة الشيوخ» ترحب بمقترح إنشاء متحف لعظيمات مصر في العاصمة الإدارية    "أثر الأشباح" للمخرج جوناثان ميليت يفتتح أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي    بعد تصدرها التريند..تعرف على عدد زيجات لقاء سويدان    أمينة الفتوى: سيطرة الأم على ابنتها يؤثر على الثقة والمحبة بينهما    رئيس جامعة طنطا يتفقد أعمال تنفيذ مشروع مستشفى الطوارئ الجديد    فرحة في الكامب نو.. برشلونة يقترب من تجديد عقد نجمه    لجنة حماية الصحفيين: نشعر بالقلق جراء إفلات إسرائيل من العقاب    محافظ أسوان: العامل المصرى يشهد رعاية مباشرة من الرئيس السيسى    إعلام النواب توافق على موازنة الهيئة الوطنية للصحافة    قائد الجيش الأوكراني: الوضع في خاركيف تدهور بشكل كبير    الدورى الإسبانى.. قاديش يعزز من فرص تواجده فى الليجا بالفوز على خيتافى    موعد عيد الاضحى 2024 وكم يوم إجازة العيد؟    اسكواش.. نتائج منافسات السيدات في الدور الثاني من بطولة العالم    "العيد فرحة وأجمل فرحة".. موعد عيد الاضحى المبارك حسب معهد البحوث الفلكية 2024    إصابة 8 أشخاص في انقلاب ميكروباص بترعة الإبراهيمية ببني سويف    التقديم 18 مايو.. الشروط والأوراق المطلوبة للتقديم ب"معهد معاوني الأمن"    الثلاثاء.. مناقشة رواية "يوم الملاجا" لأيمن شكري بحزب التجمع    المفتي يحذر الحجاج: «لا تنشغلوا بالتصوير والبث المباشر»    الليلة.. وهابيات تجمل معهد الموسيقى    لحماية صحتك.. احذر تناول البطاطس الخضراء وذات البراعم    الصحة: الجلطات عرض نادر للقاح أسترازينيكا    مصرع شاب أسفل عجلات القطار بالمحلة الكبرى    ضبط دقيق مدعم وكراتين سجائر قبل بيعها بالسوق السوداء في المنيا    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل سائق توك توك وسرقته في الفيوم لعدم حضور الشهود    مظاهرات الجامعات توقظ ضمير العالم    مجلس الشيوخ يقف دقيقة حدادًا على النائب الراحل عبد الخالق عياد    بعد افتتاح السيدة زينب، الأوقاف: خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت والصحابة    هشام آمنة: 256 مليون جنيه لتطوير منظومة إدارة المخلفات بالمنوفية    البورصة تخسر 25 مليار جنيه في ختام تعاملات أول الأسبوع    المشاهد الأولى لنزوح جماعي من مخيم جباليا شمال غزة هربا من الاجتياح الإسرائيلي    جلسة مباحثات بين وزير الخارجية ونظيره السلوفيني لبحث سبل وقف الحرب على غزة    إعلان خلو مقعد الراحل عبد الخالق عياد من الشيوخ وإخطار الوطنية للانتخابات    في العالمي للتمريض، الصحة: زيادة بدل مخاطر المهن الطبية    بعد توجيهات الرئيس بتجديدها.. نقيب الأشراف: مساجد آل البيت أصبحت أكثر جذبا للزائرين    اليوم العالمي للتمريض.. قصة "سيدة المصباح" التي أنقذت الكثير من الأرواح    الدفاع المدني في غزة: خسرنا أكثر من 80% من قدراتنا    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات بأفغانستان إلى 315 شخصًا    مجلس الجامعات الخاصة يكشف قرب الانتهاء من إنشاء 7 مستشفيات    البريميرليج يقترب من النهاية.. من يحسم اللقب؟    بايرن ميونخ يستهدف التعاقد مع مدرب "مفاجأة"    تطورات قضية زوج المذيعة أميرة شنب.. وقرار جديد من المحكمة    kingdom planet of the apes على قمة شباك تذاكر الأفلام الأجنبية في مصر (بالأرقام)    مسؤولون: «34 ألف فلسطيني بينهم 14 ألف طفل قُتلوا بذخائر أمريكية»    بنك ناصر يطرح منتج "فاتحة خير" لتمويل المشروعات المتناهية الصغر    «الداخلية»: ضبط 4 عاطلين بتهمة سرقة أحد المواقع في أسوان    الجزار يوجه بعدم التهاون مع المقاولين في معدلات التنفيذ وجودة تشطيبات وحدات سكن لكل المصريين    أسيوط: إزالة 8 تعديات على أراضي زراعية ومخالفات بناء بمراكز أسيوط وصدفا وحي شرق    مدبولي: نراقب الدين العام ووضعنا قيودا على النفقات الحكومية    الإفتاء: توضح حكم سرقة التيار الكهربائي    إسلام بحيري يرد على سبب تسميه مركز "تكوين الفكر العربي" ومطالب إغلاقه    الصحة: تطوير وتحديث طرق اكتشاف الربو وعلاجه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الاخباد
السلطان الطفل
نشر في الأخبار يوم 15 - 11 - 2011

»عرفت مصر في تاريخها الطويل حكاما من كل الاصناف والانواع، تولي حكم مصر طفل عمره ستة شهور، وانتهازيون، وأفاقون ولصوص وشواذ، العصر المملوكي مرآة الأعاجيب ومنه نتوقف عند هذه الوقائع..«
».. فلما كان يوم الاحد سابع وعشرين ذي القعدة من سنة إحدي وتسعمائة، توفي الملك الاشرف ابوالنصر قايتباي المحمودي الظاهري، دفن في اليوم التالي، رحل بعد أن حكم مصر والديار الشامية تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر وواحدا وعشرين يوما، كان سلطانا عظيما، شهما، وقورا، وافر العقل، سديد الرأي، يتروي في الامور قبل وقوعها، شجاعا، فارسا قديرا، وكان عصره من العصور الزاهية«.
بعد وفاته صار السؤال المطروح من بعده يلي الحكم؟ كان هناك عدد من المماليك يتربص بكرسي السلطنة، مثل الامير قنصوه خمسمائة، وكرتباي الاحمر، ولما كان انقضاض احدهم علي السلطة سيفجر الصراعات والحروب، فقد جرت العادة في مثل هذه الاحوال علي تولية أحد أبناء السلطان حتي لو كان طفلا رضيعا. وبمضي الايام تتم الغلبة لمن هو أقوي. هكذا وقع الاتفاق علي سلطنة ابن السلطان، بايعه الامراء من غير موافقة والده الذي كان يلفظ أنفاسه الاخيرة، وتلقب الناصر، كان عمره اربعة عشر عاما وأشهرا، يقول ابن إياس: »ولو كان قايتباي واعيا لما مكن الامراء بان يسلطنوا ولده، ولا كان ذلك قصده«. ويبدو أن الأب كان يعرف ابنه جيدا، المهم احضرت شعائر الملك، وهي الجبة السوداء، قد فصلت علي قده، ولفت له عمامة لطيفة مناسبة له، وقدمت إليه فرس النوبة بسرج المذهب والكنبوش، وتقدم الامير قنصوه، وحمل القبة والطير علي رأسه، ومشي السلطان حتي جلس علي سرير الملك، وهكذا تولي امر مصر والديار الشامية، حدث عمره اربعة عشر عاما، دون البلوغ..
.. تأسف الناس علي موت قايتباي. وخرجوا إلي جنازته، حتي ان ابن إياس يقول » وكانت جنازته مشهودة بخلاف من يموت من الملوك«. ولم يستبشر الناس خيرا بالسلطان الجديد، ويبدو أن ظاهرة الحاكم القوي الذي يعقبه سلسلة من الحكام الضعاف تتكرر في التاريخ المصري، نجدها في العصر الفرعوني، رمسيس الثاني مثلا يموت، ويخلفه اثنا عشرة من الرمامسة، لا يتوقف عندهم أحد، خوفو الذي شيد الهرم الاكبر، ثم خفرع الاقل حجما حتي في هرمه، ثم منقرع، ثم ملوك آخرون، غير معروفين، وفي تاريخنا الحديث بدأت الاسرة العلوية بمحمد علي باشا الكبير، وانتهت في القرن التاسع عشر بالخديو توفيق الخائر، والجبان، الذي نكب مصر بالاحتلال الانجليزي.
هكذا جاء الناصر ابن الرابعة عشرة مخلفا لأبيه قايتباي العظيم، كان جميل الهيئة، مليح الشكل، ولكنه هذا النوع من الجمال الذي يخفي في طياته القبح الداخلي، والشر، والقسوة الزائدة، لم يشعر بحزن كبير علي والده، إنما راح يمعن النظر فرحا في السلطة التي أصبحت فجأة بين يديه، الامراء الكبار يقبلون الارض بين يديه، الخليفة يمشي منكس الرأس، الكل يسعي اليه ويطلب وده ، لا شيء يحول دون تحقيق رغباته، في نفس الوقت عظم أمر الاتابكي قنصوه خمسمائة إلي الغاية، حتي انه لم يصل مع السلطان صلاة عيد النحر ولا صلاة الجمعة، وفي بداية عام اثنتين وتسعمائة شعر السلطان ان الكل يتربص به، فأحضر المصحف العثماني وحلف عليه سائر الامراء والعساكر، ولم يطلع قنصوه خمسمائة ولم يحلف في بداية الامر علي الولاء للسلطان، ولكنه طلع بعد ايام وحلف أيمانا غير صادقة، ويبدو أن السلطان الغلام شعر ببعض الاطمئنان بعد القسم، لم يكن شيء يحول دون تحقيق شهواته، بدأ طيشانه يظهر، في أحد الايام قبض علي امرأة، وضربها بين يديه بالمقارع، وامر باشهارها علي حمار وفي عنقها زنجير حديد، وهذا شيء لم يحدث قط من قبل، أن تضرب امرأة بين يدي سلطان، بل انه ضربها بنفسه، وبدا متلذذا بالضرب، مستمتعا به، ثم بدأ في النزول من القلعة ومصاحبة الاوباش، واللعب معهم، وتدخين الحشيش، واتيان الرذائل، واضطر الامراء إلي إحاطته بأربعة من الحاشية لمنعه من النزول واللعب مع اولاد العوام، وصار الامير تاني بك الجمالي يبات عنده كل ليلة في القلعة ليمنعه من ذلك، ولكن رغبات السلطان كانت اقوي، وشهواته أعنف، وطيشه أعظم، ولم يكن يهتم بمظاهر السلطنة، في ربيع الاول (209ه) اقام السلطان المولد النبوي، وكان حافلا، وكان اول احتفال عام يقيمه، ويحضره، جلس بين الامراء وفجأة اعتراه النعاس، واضطر الامراء إلي رش الماء علي وجهه حتي يفيق، في هذه الفترة بدأت الاطماع تتحرك، في جمادي الاولي تزايدت الشائعات بوقوع فتنة كبيرة، وفي مثل هذه الحال تغلق الاسواق، وتفغر الطرقات، ويقبع الناس خلف جدران بيوتهم ينتظرون نتيجة الصراع، وللمرة الثانية يحضر السلطان المصحف العثماني ويحلف الامراء والجند عليه، ولم تمض عدة أيام حتي تحرك الامير قنصوه، ركب بعساكره، قاصدا باب السلسلة، ثم جلس وارسل يستدعي امير المؤمنين الخليفة المتوكل، والقضاة الاربعة، وسائر الجند، فلما تكامل المجلس تشاوروا في خلع السلطان الناصر وسلطنة قنصوه، وبالفعل، قرروا خلع السلطان، تشاوروا في ذلك، وكتبوا محضرا، وشهد فيه الكثيرون، وبويع الامير قنصوه بالسلطنة، وتلقب بالاشرف ابي النصر، وقبل له الامراء الارض والعسكر قاطبة ونودي باسمه في القاهرة، وارتفعت له الاصوات بالدعاء، ولم يتبق له إلا أن يركب فرس النوبة، ويلبس الجبة السوداء، والعمامة السلطانية، وتحمل علي رأسه القبة والطير، والاهم من ذلك كله صعوده إلي قلعة الجبل، وجلوسه علي سرير الملك، والاستيلاء علي القلعة في العصر المملوكي كان هو الفيصل في الصراع، كان سقوطها يعني استلام السلطة بشكل كامل، ويعكس ذلك مركزية السلطة الشديدة في مصر، ولكن وقعت عجائب، وغرائب، كما يقال:
ستقضي لنا الايام غير التي غدت
ويحدث من بعد الأمور أمور
كل الامور مهيأة
أرسل السلطان الجديد بعض الامراء إلي القلعة للقبض علي الملك الناصر، ولكن جماعة من مماليك ابيه تعصبو له ، وتصدوا للامراء، وكان علي رأسهم خال السلطان الناصر، ودار القتال في القلعة، واستمر حتي يوم الجمعة مستهل جمادي الاخرة، في هذا اليوم اصاب قنصوه سهم سقط مغشيا عليه، فحمله الغلمان علي اكتافهم، وبقي لباسه بدكته ظاهرا للناس، ورأسه مكشوف وهكذا فقد السلطان الجديد هيبته، واختفي في القاهرة، فلما انكسر نزل مماليك السلطان الغلام، ونهبوا الامراء والخليفة، وخطفوا عمائم القضاة ونوابهم وفي اليوم التالي طلع الخليفة والقضاة إلي القلعة، لتهنئة السلطان الغلام بانتصاره، وبايع الخليفة السلطان الغلام مرة ثانية بعد أن كان قد خلع منها، انعم السلطان علي خاله الذي صار صاحب الحل والعقد بالديار المصرية، وصار السعي لارباب الوظائف من بابه، وبعد عدة أيام ظهر الامير قنصوه مرة اخري، ولكن لم يتحمس الجند للوقوف معه، فأضطر للهرب مرة أخري، خارج القاهرة، ولم يمض وقت طويل حتي قتل، غير أن تمرد قنصوه جعل السلطان الغلام مهددا باستمرار حتي أن بعض المماليك اقترحوا تغيير لقب السلطان، ولقبوه بالملك الاشرف علي لقب أبيه، واحتج بعض الامراء كيف يكون ذلك وقد خرجت المناشير إلي كل البلاد باللقب الاول، ولكن المماليك صمموا وعند ذلك نودي في القاهرة ان السلطان تغير لقبه، إلي الملك الاشرف، فتعجب الناس من ذلك، وصار الخطباء فريقين بعضهم يخطب باسم الملك الناصر، ومنهم من يخطب باسم الملك الاشرف. وقع الاضطراب في كل شيء، وهجم المنسر علي سوق باب اللوق وسوق تحت الربع، وقطع العربان الطرق في الريف، وبرغم اضطراب الاحوال، فان السلطان الغلام لم يتعظ ولم يثب إلي رشده، بعد انتهاء الفتنة اندفع في سلوكياته أكثر قوة، واشد.
اختار السلطان الغلام عددا من اللصوص، والاوباش، فصاحبهم ولازمهم وصنعوا له مركبا صغيرة، جعل فيها حلوي وفاكهة وجبن مقلي، وكان ينزل بنفسه في المركب، ويبيع كما يبيع الباعة في بركة الرطلي زمن فيضان النيل، وكان يقلد أصوات الباعة، ويبدو مسرورا بتمثيله دور البائع، ثم يظهر لمن يلعب معهم فجأة القسوة، يذكرهم بأنه السلطان، واذ يري رعبهم منه يضحك، يضحك مسرورا، وفجأة أمر بالقبض علي سبعة من اهل الفساد الذين كانوا يلعبون معه، ادخلهم إلي الحوش في وسط القلعة، أمر بقيدهم، ثم استدعي المشاعلي »المكلف باعدام الناس« وطلب منه أن يعلمه كيف يوسطهم، فراح المشاعلي يعلمه ذلك امام رفاقه في اللعب، وهو يختلس النظر بين الحين والحين إلي وجوههم مستمتعا برعبهم، ثم تقدم منهم، أمسك بالسيف وبدأ بأن قطع ايديهم ثم قطع آذانهم، ثم قطع ألسنتهم بيده، وكلما علت صرخاتهم، ازداد قسوة، وازداد متعة، وبعد أن وسطهم جميعا، دخل إلي قاعة الملك ليدير أمور الدولة، لقد رأي الذعر الانساني، واشبع عينيه فرأي الدماء، انه يريد ان يري ذعر الحيوانات، أمر باحضار عدد منها وقطعها بيده، ثم امر باحضار عدد من الحيات السامة، فقطعت بحضوره، وبعد انتهاء تقطيعها أهدي من قاموا بهذه العملية الخلع والهدايا.
العيد
الامور تضطرب، يجيء الصيف ويشتد الحر، يعز وجود السقايين، يتكالب الناس علي الجمال التي تنقل المياه من النيل حتي انهم تخانقوا بالعصي، يتزايد أذي المماليك، ينزلون إلي الاسواق ويعترضون المارة، يخطفون العمائم، وخطف العمائم من الامور الشائعة في هذا الزمان، لان الناس اعتادوا وضع نقودهم في لفات القماش التي تحيط بالعمامة، إلا من مفتقر تماما، والسلطان كلما تقدم به السن لا يعقل ولا تدركه حكمة، في يوم التاسع والعشرين من شهر رمضان عام 209ه يأمر السلطان بأن تدق الكوسات (الفرقة الموسيقية ) في القلعة، يقول لمن حوله »أنا اعمل العيد في الغر من هذا الشهر إن رأوا الهلال أو لم يروا« فلما أشيع ذلك بين الناس ركب قاضي القضاة الشافعي زين الدين زكريا وطلع إلي القلعة فاجتمع بالسلطان وراح يشرح له أن العيد لا يكون شرعا إلا اذا رؤئي الهلال، وشق الامر علي السلطان، غضب، كيف لا ينفذ ماأرتآه، كيف لا تتحقق رغبته حتي وأن بدت مخالفة للشرع، للدين، أليست خيوط السلطة كلها في يده، هم بعزل القاضي في ذلك اليوم، في اليوم التالي كان الخميس ولم يظهر الهلال فجاء العيد يوم الجمعة، وكان السلطان يخشي في أعماقه مجيء العيد يوم الجمعة، بسبب اعتقاد ساد في مصر خلال العصور الوسطي، وحتي الآن بين الطبقات شعبية، وهو انه اذا جاء العيد يوم الجمعة، واقيمت الصلاة فيه مرتين كان ذلك ايذانا بزوال الحاكم عن قريب، جاء العيد يوم جمعة، ولم يخرج السلطان إلي الصلاة، ولم يطلع الاتابكي تمراز إلي القلعة ولا بقية الامراء المقدمين، ولم يكن السلطان في موقعه، انما كان في قاعة البحرة يقضي العيد مع الاوباش واللصوص.
يقول ابن إياس:
»وكان الناصر في تلك الايام في غاية الطيشان..«
وينتهي عام 209ه ويعلق ابن إياس:
»وقد خرجت هذا السنة علي خير رغم ما فيها من الفتن والشرور والفساد، وخراب البلاد، ووقع فيها الغلاء وتشحطت الغلال، وقتل فيها من الامراء نحو من خمسين اميرا، ما بين مقدمين ألوف وطبلخانات وعشرات، وقد تقدم ذكر ذلك عند وقوع كل حادثة، من أوائل هذه السنة إلي أواخرها، حسبما أوردناه من الوقائع، وقتل من الجند والعرب نحو من ألف إنسان فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..«.
النساء
سلطان في الرابعة عشرة، مراهق، شاذ، ما من شيء، يحول دون رغباته الحسية، ينزل بين الحين والحين إلي تربة أبيه مع أصحابه اللصوص، وقطاع الطرق الشواذ، وفي الليل يأتي بما لم يسمع بمثله يقول ابن إياس:
»وفيه نزل السلطان وبات في تربة أبيه، وحصل منه تلك الليلة عدة مساويء لا ينبغي شرحها«.
وفي هذه الايام يجيء الطاعون، ومات من الاطفال والمماليك والعبيد والجواري عدد كبير، واستمر المماليك في أذاهم للسلطان، استخفوا به، وجاروا علي الناس بخطف القماش من الدكاكين والبضائع من الاسواق، وصاروا يستخفون بالسلطان والامراء، حتي قيل ان بعض المماليك كان راكبا علي فرس حرون فصادف جنازة في وجهه، فجفل منها فرس ذلك المملوك، فسقط علي الارض، فخرج خلفه وهاش علي الحمالين الذين يحملون الميت، فهربوا بعد أن ألقوا الميت علي الارض، فلما هربوا راح يضرب الميت حتي شفي غليله!
كل تفاصيل الحياة تصبح قبيحة اذا كان الحاكم قبيحا، عرفنا ذلك جيدا في مصر، طوال تاريخها البعيد، والقريب، أما السلطان الغلام فلاه، لا يعبأ، غارق في طيشه، ينزل إلي بولاق في مولد سيدي اسماعيل الامبابي، رحمة الله عليه، يعبر النيل في قارب، ومعه بعض اولاد عمه، أوقد حراقة نفط هائلة »صواريخ« وبات هذه الليلة في المركب، ثم تكرر منه ذلك في عدة ليال أخري، ثم صار يركب بنفسه في كل ليلة بعد العشاء وامامه فانوسان واربعة مشاعل، وعدد من العبيد السود، وإذ يري أي انسان في الطريق يناديه، ثم يسأله بصوت هاديء، ويتحاور معه، وفجأة يأمر بإمساكه ثم ينزل من فوق جواده ويقطع أذنيه وأنفه بيده، أو يقتله، وهكذا قتل من الناس عددا لا يحصي في مدة بسيطة، وكان إذا مر بدكان ولم ير عليه قنديلا يسمر الدكان، وهو واقف بنفسه عليه حتي تسمر، كان السلطان أثناء مشيه في الاسواق ينظر إلي البيوت فاذا لمح امرأة جميلة هجم عليه واقتحمه واغتصبها أمام زوجها، وأخيها وفي إحدي الليالي دخل حارة الروم، هجم علي دار ابراهيم مستوفي ديوان الخواص من المماليكوقبض علي ولده ابي البقا وأراد قتله، فألقي والده نفسه عليه وافتداه بألف دينار، كان السلطان الطفل - الذي اصبح مراهقا بشعا - قد بلغه ان زوجة ابي البقا جميلة فهجم عليه بسببها، فاخفوها منه، فجري منه ذلك، مرة اخري سمع عن امرأة جميلة، فاقتحم طاقة بيتها، واغتصبها وضرب زوجها بالمقارع وسط بيته، وقطع دائرة فرجها بيده ونظمه في خيط أعده لنظم فروج النساء، في يوم اخر امسك بجارية جميلة، اغلق عليها الباب، ربطها وفي قسوة بشعة راح يسلخ جلدها، راحت أمه تتشفع لها، ولكنه لم يستجب لطرقاتها فوق الباب، واستمر حتي سلخ الجارية تماما، وحشا جلدها ثيابا، وخرج يظهر لمن بالباب قدرته علي السلخ، راح يصيح »إن الجلادين لا يستطيعون ان يفعلوا مثلما فعلت«.
ونتوقف عن سرد فظاعاته مع النساء.
ويمضي عام آخر من سنوات العذاب التي عرفتها مصر، ولندع شيخنا ابن اياس يعلق:
وقد خرجت هذه السنة علي الناس وهم في أمر مريب، وقد وقع بها الغلاء والفناء، والمصادرات للناس، وجور السلطان في حق الناس، كما تقدم، وأذي المماليك في حق الرعية، وقد صارت الناس في غاية الاضطراب وما كفي هذا كله، حتي فشا في الناس داء يقال له الحب الفرنجي »الزهري» أعاذنا الله منه وقد اعيا الاطباء امره ولم يظهر هذا بمصر قط سوي في اوائل هذا القرن، ومات به من الناس مالا يحصي. انتهي ذلك«.
ولكن ايام السلطان المجنون لم تنته بعد..
لابد من نهاية
.. في غمار الاستمتاع بالسلطة وسكرتها تبدو الاوضاع مستقرة هادئة، ويخيل للحاكم أنه سيقضي بقية عمره يحكم ويفسق، ولن يردعه رادع، وفي مصر كانت تمر فترات يبدو فيها الواقع آسنا، كريها وما من حركة ايجابية تواجه البغي، وفجأة يتفجر الواقع عن مفاجأة، لا تخطر علي بال، ربما يتحرك شخص واحد يفتدي أمته بنفسه، فيجهز علي الطاغية، وهكذا يتبدل الواقع إلي الافضل، وقد يهب الشعب كله الذي ظن القريب والبعيد أنه مات، وأنه لن يتحرك.
جاءت سنة 409 ه، والاحوال سيئة للغاية، والمماليك طالبون الشر مع السلطان فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الاول، نزل السلطان من القلعة وتوجه إلي بر الجيزة، لم يصحبه احد من الامراء، حتي ولا خاله، نصب هناك خيمة فارسل واحضر ابوالخير لاعب خيال الظل المشهور، وجوق مغاني، واقام ثلاثة ايام وهو في أرغد عيش، واثناء عودته مر علي الطالبية، وكان الامير طومان باي الدوادار هناك، خرج الامير وعزم عليه فلم ينزل عنده، فخرج إليه بجفنة فيها لبن فاخر، فوقف السلطان وهو راكب علي فرسه، فقدموا له جفنة اللبن والمعلقة فمد يده إلي الجفنة وأكل من اللبن، فبينما هو يأكل والامير طومان باي ماسك لجام فرسه، فلم يشعر الا وقد خرج عليه كمين من الخيام التي هناك نحو من خمسين مملوكا، وهم لابسون آلة السلاح فاحتاطوا به، وعاجلوه بالحسام قبل الكلام.
وقتل أشر قتلة، مثلوا به كما مثل بالمئات، صارت أشلاؤه مرمية فوق الارض، وظلت مرمية حتي جاء بعض خدام شيخ مسجد قريب وحملوه وألقوا به فوق حصير.
وهنا لنصغي إلي شيخنا ابن إياس:
».. وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية نحوا من سنتين وثلاثة أشهر وتسعة عشر يوما، وكانت أيامه كلها فتنا وشرورا وحروبا قائمة، وما كان الاشرف قايتباي قصده ان يتسلطن ولده خوفا عليه من ذلك«.
ويسدل الستار علي فترة حالكة من تاريخ مصر الطويل..«
من ديوان الشعر العربي
»وأُسرُّ في الدنيا بكل زيادةٍ
وزيادتي فيها هو النَقْصُ
»أبوالعتاهية«


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.