في كل زيارة اكتشف بمجرد وصولي اني قد فقدت ملمحاً رئيسياً من الملامح التي عشت فيها وبها طوال السنوات التي مضت من عمري. السبت: ليس عندي كمواطن اقصري مشكلة مباشرة مع سمير فرج محافظ الأقصر، فالرجل لم يهدم لي بيتاً لتوسعة شارع ولم ينتزع مني محلاً في موقع مميز بالمدينة.. غير ان الرجل بالنسبة لي تعدي علي ما هو اهم من البيت والشارع والدكان عندما عبث في ذكرياتي واماكن طفولتي وصباي، ربما تكون الاقصر في اعين الزملاء من الصحفيين والكتاب الذين زاروها مؤخراً قد تحولت بالفعل الي تحفة فنية رائعة، وهو ما ينعكس في كثير من المقالات التي لا تخلو منها يومياً جريدة او مجلة غير ان هؤلاء الزملاء مع احترامي الكبير وتقديري لكل حرف يخطونه ليسوا مثلي في علاقتهم بالمكان فالمشكلة بالنسبة لي اني كلما سافرت الي الاقصر في الفترات الأخيرة ابحث عن نفسي التي كانت فلا أجدها، وفي كل زيارة اكتشف بمجرد وصولي اني قد فقدت ملمحاً رئيسياً من الملامح التي عشت فيها وبها طوال السنوات التي مضت من عمري، نعم لقد اتسع مثلاً شارع المحطة، ولكن الاتساع جاء علي حساب ذكريات جميلة من المشاوير التي طالما قد مشيتها برفقة توأم الروح وصديق العمر صالح مصطفي عندما كنا ندخر من المصروف اليسير ما يكفي لفسحة في شارع المحطة مساء كل خميس نختتمها بالذهاب الي محل عم »كالوبه« اشهر من كان يصنع البسبوسة والبقلاوة في الاقصر، نعم لقد زاد عرض شارع المنشية الي الضعف ولكن بلدوزرات سمير فرج هدمت كل شقاوة الطفولة والشباب عندما كان الشارع يتحول خاصة في الليالي الرمضانية الي ساحة للعبة الاستغماية حول فرن الكنافة ومباريات كرة القدم التي لا تنتهي الا قبيل السحور!. احساس صعب فعلاً ان تشعر بالغربة في المكان الذي شهد ميلادك وأحلي سنوات عمرك والأصعب انه كلما زاد التطوير زاد معه الشعور بالاغتراب عن المكان وذكرياته.. اما الاشد ايلاماً ان تشعر وكأنك قد فقدت الذاكرة تماماً.. والأخطر من كل ذلك هو احساسك بأنك قد اصبحت غير مرغوب فيك في بلدك.. او علي رأي شاعرنا الكبير فاروق جويدة عندما خاطب حبيبته قائلاً: شئ تكسر بيننا.. فلا أنت التي كنت ولا أنا فارس الاحلام.. وحتي لا يتهمني احد بالمبالغة ارجو قراءة الفقرة التالية من هذه اليوميات!. غرام في الكرنك الأحد: »الأقصر بلدنا بلد سواح.. فيها الاجانب تتفسح.. وكل عام وقت المرواح بتبقي مش عايزه تروح وتسيب بلدنا«.. لا أعتقد ان هناك مصرياً واحداً لا يحفظ هذا اللحن الرائع والكلمات الجميلة التي تغني بها محمد العزبي وفرقة رضا وجاء تصويرها كأروع ما يكون في فيلم »غرام في الكرنك« عندما تحول صوت حركة سنابك الخيول التي تجر عربات الحنطور علي ارضية شارع الكورنيش الي جزء اساسي من اللحن، هذه الاغنية كانت دائماً مصدر فخر واعتزاز لنا جميعاً ابناء الاقصر بشكل خاص حيث كنا نعتبرها دائماً النشيد القومي للمدينة، غير اني استشعر مرارة دفينة بدأت تسري بين عدد غير قليل من أهالي الاقصر عندما بدأوا يرددون مؤخراً ان الاقصر »بلد سواح« فقط، وذلك في اشارة واضحة لعدم رضائهم عن اهمال الجانب الانساني في التطوير والتركيز فقط علي الجانب المكاني، ولعلي لا اذيع سراً اذا قلت ان ابناء الاقصر وأنا واحد منهم كانت دائماً لدينا عُقدة من اهتمام أي رئيس جديد للمدينة بالجانب السياحي علي حساب ابناء البلد، وكنا وقتها نقبل بهذه التفرقة علي اساس ان النشاط السياحي يعود بالنفع علي ابناء المدينة حيث لا تخلو اسرة أقصرية من فرد علي الاقل يعمل في المجال السياحي.. وعندما تولي سمير فرج مسئولية الاقصر استبشرنا خيراً بأنه قد جاء من يستطيع بالفعل ان يوازن بين الاهتمام بالمواطن والسائح ولكن مع مرور الايام بدأت كفة ميزان الدكتور سمير فرج تميل اكثر ناحية السائح فقلنا: »رجعت ريما لعادتها القديمة«، واوشكنا ان نرضي بالامر الواقع ثم بدأ الدكتور سمير ينفذ خطة تحويل المدينة الي متحف مفتوح وهو امر لا يختلف معه احد عليه، ولكن مع المبالغة في عمليات الازالة التي طالت منشآت ومباني لم تكن موضوعة في خطة التطوير الأولي بدأ القلق يتسرب الي كل مواطن، هل الدور في الازالة قادم اليه لا محالة وهل علي كل مواطن اقصري يعيش داخل كردون المدينة ان يبحث له عن مكان آخر ان عاجلاً او آجلاً؟!. اسئلة كثيرة تعكس حالة من القلق وتجعل ابناء الاقصر يشعرون بأن تطوير مدينتهم ليس لهم ولكن فقط للسياح القادمين من الخارج!!. عذراً اذا كنت ابدو كمن يسبح ضد تيار الاشادة بكل انجازات الدكتور سمير فرج فالرجل قدم ولا يزال يقدم الكثير من الافكار للأقصر ولكني فقط اردت ان انقل له انين الاقصر بلدنا والذي لن يسمعه الدكتور او يقرأه علي لسان احد ممن يزورون المدينة مثلهم مثل السياح لا يرون إلا الشكل الخارجي ثم سرعان ما يغادرونها دون ان يلتفتوا الي الطرف الأهم في معادلة التطوير ألا وهم ابناء الاقصر الذين يعيشون فيها وتعيش فيهم!!.. فنحن نقر يادكتور سمير بان كل اصلاح له تضحياته وضحاياه ولكننا لا نقبل ان نتعرض للظلم مرتين.. الأولي: عندما لم يتم تعويض الاهالي تعويضا ماديا لائقا بما قدموه من بيوت ومحلات.. والثانية: عندما تصرح يا دكتور سمير في كل مكان انه لا يوجد مواطن اقصري قد تعرض للظلم.. وهذا هو الظلم بعينه! طيور الجنة الاربعاء: من القنوات التليفزيونية القليلة التي لفتت نظري في الفترة الأخيرة قناة طيور الجنة، وهي فضائية اردنية مخصصة للأطفال، فكر راق وبرامج رائعة ممتعة تخاطب الطفل باللغة التي يفهمها دون فلسفة او تعقيد، اغنيات هادفة واناشيد ممتازة تناقش كل اوجه الحياة وتساعد الطفل ان يعيش بطريقة صحيحة منذ اللحظة التي يستيقظ فيها وحتي اللحظة التي يأوي فيها الي فراشه، وبدون مبالغة اذا كنت اقضي مع زوجتي والبنات ساعتين او ثلاثا يومياً امام التليفزيون فإن نصف هذا الوقت ان لم يكن أكثر نقضيه امام طيور الجنة ونجومها الذين حفروا اسماءهم في سماء الاعلام العربي الهادف، خالد مقداد وولديه الطفلين الكبيرين الوليد والمعتصم بالله، الواعدة رغد الوزان وكوكبة النجوم عمر الصعيدي ومصطفي العزاوي واسامة النسعة ومحمد بشار وديما بشار وغيرهم، واذا كانت طيور الجنة تستهدف الصغار فقد نجحت بالفعل في استقطاب الكبار ايضاً الذين اصبحوا ينتظرون اغنياتها واناشيدها وبرامجها بنفس لهفة وترقب الصغار، تحية لقائد هذا الفريق خالد مقداد والذي قدم لنا هذه الهدية الجميلة لتكون اشبه بلحظة استراحة يحتاجها الانسان ليلتقط انفاسه وهو يتابع هذا الكم الرهيب من قنوات الدراما والمنوعات والرياضة والسياسة والازياء والمطبخ والديكور والماكياج بكل ما في هذه القنوات خاصة السياسية والرياضية من مهاترات ومواجهات وسباب وشتائم وألفاظ يندي لها الجبين، ومرة اخري شكراً لطيور الجنة التي اعادت الينا طفولتنا المهدرة. أحمد حسن الخميس: عشرة عمر طويل جمعت بيني وبين الصديق والزميل العزيز احمد حسن بلديات رفاعة رافع الطهطاوي والذي كان مشرفاً علي القسم الخارجي في الاخبار قبل ان يستقيل مؤخراً للعمل في وكالة رويترز العالمية للأنباء، بدأت علاقتي بأحمد حسن منذ عام 1891 عندما التحقنا بقسم الصحافة في كلية الآداب بسوهاج حيث لم تجمعنا الدراسة فقط، بل جمعنا كذلك السكن معا في المدينة الجامعية، ومنذ اللحظة الأولي والتي التقينا فيها سويا تفاعلت الكيمياء الخاصة بكل منا مع الآخر وأصبحنا لا نفترق أبدا، في الصباح نتجاور في مدرج الكلية وفي المساء نتشارك في السكن، وكان نظام المدينة الجامعية في ذلك الوقت إما ان تسكن مع ثلاثة اخرين في حجرة كبيرة أو مع واحد فقط في مطبخ صغير مجهز لسكن اثنين مع وضع سريرين فوق بعض، وقد اخترنا انا وأحمد ان نعيش في هذا المطبخ ولمدة 4 سنوات لم نختلف فيها مرة واحدة، وقد كان بقية زملاء الدفعة يتندرون بهذه العلاقة الجميلة التي تجمع بين طالب من الأقصر والثاني من طهطا، وقد كان احمد ولا يزال احد الشخصيات الجميلة التي تعرفت عليها في مشوار حياتي، شخص منظم الفكر لأبعد الحدود، حاد البصيرة متقد الذكاء، لماحا جدا، دماغه عبارة عن كومبيوتر بشري متحرك، يستطيع أن يحفظ ويفهم صفحة كاملة من جريدة بمجرد أن يقرأها مرة واحدة، وكثيرا ما كان يتحدي الدكاترة والمعيدين في قضايا وموضوعات خاصة بالمنهج ثم يثبت انه هو الذي معه الحق، فاستحق احمد حسن ان يكون دائما الأول علي دفعتنا ورغم حبه الشديد للعلم والبحث والدراسة الا انه اختار العمل في بلاط صاحبة الجلالة حيث بدأ رحلته في الوفد ثم في جريدة الأخبار قبل ان ينتقل الي موقعه الجديد في وكالة رويترز، وطوال هذه السنوات لم يتغير أحمد بل كان دائما صاحب آراء ومباديء ومواقف لا تتغير أبدا مهما تغير الزمان والمكان والأشخاص، وكثيرا ما تسبب وضوح أحمد وصراحته في أن يخسر بعض الناس لكنه لم يقبل ابدا أن يخسر نفسه، كل التمنيات لزميلي وصديقي ورفيق الدراسة والسكن والعمل احمد حسن ان يوفقه الله في موقعه الجديد بوكالة رويترز فهو يملك من المؤهلات والملكات ما يمكنه من النجاح في أي مكان يختاره. الأحباب يتساقطون الاثنين: ورقة جديدة علي باب الأسانسير، ومشوار جديد الي المقابر، هذا هو ملخص حالنا، كل يوم تصدمنا هذه الورقة بخير رحيل واحد من الأحباب معلنة عن موعد التحرك لتشييعه الي مثواه الأخير، يتحرك الركب المهيب في صمت يحمل كل دلالة اللحظة وصفاتها، الكل امام الموت سواء، لا كبير ولا صغير، لا مدير ولا غفير، وعندما يكون صاحب العرس في أخلاق وصفات كل من الراحل بدر الدين أدهم والانسان الجميل مؤمن مرسي يكون المصاب جللا والخسارة فادحة، فالخسارة ليست لشخص نحتسبه شهيدا عند الله ولكن لمواقف وطبائع لم يعد متوافرا منها الكثير في هذه الأيام، فقد كان كل منهما في حياته يعيش كالامراء والملوك الذين يفيضون علي من حولهم بابتسامة الثقة ونظرة الرضا والاطمئنان! ورقة علي باب الاسانسير، ومشوار جديد الي المقابر حيث يفاجئنا البرنس بدر بعبارة لم اقرأ مثلها حيث كتب علي باب مقبرته: هنا المقر الأخير لبدر الدين ادهم. والعجيب انه فعل ذلك في عام 7002 أي منذ ثلاث سنوات وهي شجاعة نادرة ان يعد الانسان لهذا اليوم قبل قدومه بكل هذه المدة حيث لو سألت أي فرد متي تحب ان تموت سيقول لك بعد مائة عام علي الأقل من الآن!! ورقة جديدة علي الاسانسير ومشوار جديد إلي المقابر نودع الزميل الخلوق مؤمن مرسي.. وانظر إلي السماء لاجد أسراباً من الحمام وكأنها تشاركنا في توديع الفقيد الغالي. ورقة علي باب الأسانسير، ومشوار جديد الي المقابر فمتي يانفس يكتبون ورقتك، وكيف سيكون مشوارك الأخير؟!