أخيرا .. أعلنت الحكومة عن إيقاف برنامج " الخصخصة " عن طريق بيع شركات قطاع الإعمال لمستثمر رئيسي. و هي السياسة التي أصرت عليها الحكومة و الحكومات السابقة لسنوات، و انكشفت سلبياتها الكثيرة و ما ألحقته من أضرار بالاقتصاد الوطني و ما رافق بعض صفقاتها من شبهة الفساد الذي أدي إلي إطلاق يد المستثمرين الرئيسيين - في الكثير من الأحوال - لكي يحولوا مصانع كبيرة إلي مجرد أراض فضاء يربحون من بيعها أضعاف أضعاف ما دفعوه، حتي لو كان الثمن إلقاء آلاف العمال إلي الشوارع و تخريب مصانع كان يفترض أن تتطور، و وفقد إنتاج كان سيغنينا عن الاستيراد أو يضيف إلي حصيلتنا من التصدير. و في نفس الوقت أعلن وزير الاستثمار خبراً جيداً يقول إنه مع نهاية الميزانية الحالية ( أي خلال شهرين ) ستكون كل شركات القطاع العام قد سددت كل ديونها، لتبدأ مرحلة جديدة من التطوير، و تنهي سنوات تحملت فيه من الأعباء ما شل حركتها و عطل إنتاجها و أعطي عنها صورة مخالفة للحقيقة التي تقول إن القطاع العام تحمل عبء التنمية في مصر في أصعب الظروف، و هو الذي أقام القاعدة الصناعية من الصفر وأعد الكوادر التي نقلت مصر من مجتمع زراعي متخلف إلي أبواب النهضة الصناعية. و هو الذي جعل مصر تصمد أمام الضغوط الأجنبية والحصار الاقتصادي الذي فرض عليها و هو تقود حركة الاستقلال والتحرر، و تبني في نفس الوقت السد العالي و آلاف المصانع و المدارس والمستشفيات. و هو الذي جعل مصر لا تنكسر أمام الهزيمة في 67 ووفر الإمكانيات لتعيد بناء جيشها و لتدخل حرب الاستنزاف ثم للنصر في حرب أكتوبر. لم يكن القطاع العام قطاعا خاسراً و هو الذي تحمل تمويل جيش المليون مقاتل في حرب أكتوبر، ووفر السلع الأساسية لكل المواطنين في هذه الظروف الصعبة. و لكن أرباحه كانت تذهب للميزانية العامة، و في هذه السنوات الصعبة تم تأجيل العديد من برامج الإحلال و التجديد في المصانع، و كان المفترض أن يتم تعويض ذلك بعد حرب أكتوبر ببرامج مكثفة تعيد تأهيل المصانع التي تحملت العبء كاملاً و التي كانت تحقق ما يشبه المعجزات بتشغيل المصانع بكامل طاقتها رغم نقص التمويل.. و بدلاً من ذلك دخلنا فجأة عصر الانفتاح السبهللي، و بدلاً من فتح الأبواب أمام القطاع الخاص ليكون رافعة أخري للاقتصاد الوطني بجانب القطاع العام. كان القرار هو التخلص من القطاع العام و منع أي استثمارات جديدة فيه. و كانت النتيجة بيع شركات بأقل من سعرها الحقيقي بكثير، وسقوط صناعات إستراتيجية في يد الأجانب ليفرضوا شروطهم، وتحويل قلاع صناعية مثل كفر الدوار و المحلة والنصر لصناعة السيارات إلي خرائب بعد منع ضخ أي استثمارات فيها لعشرين سنة، لتتحول ماكيناتها إلي قطع من الخردة، ويتحول عمالها إلي جيوش من العاطلين او الخارجين الي المعاش المبكر، أو المعتصمين علي رصيف مجلس الشعب !! و طوال هذه السنوات لم نتوقف عن المطالبة بقانون للخصخصة لا يترك الأمر لمزاج الوزراء، حتي لا نفاجأ ببيع ما لا يجوز بيعه، و لا بعقود بيع هي في حقيقتها عقود إذعان و تصريح بتشريد العمال . و لقد عارضنا بيع البنوك العامة للأجانب، و أظن أن ما جري خلال الأزمة المالية العالمية و ما يجري الآن من الأزمة الأوربية يؤكد ما ذهبنا إليه. و لم يكن اعتراضنا علي صفقة " عمر أفندي " لمجرد الاعتراض، بل لأن الشروط المالية كانت سيئة و حقوق العمال كانت مهددة، و لأننا كنا نريد أن تتحول فروع هذه الشركة إلي معارض للمنتجات المصرية من خلال تمليكها أو تأجيرها للشركات الصناعية الكبيرة، بدلاً من أن تتحول كما حدث الي معارض ليس فيها منتج واحد من صناعة مصرية، فحتي الأثاث أصبح وارد الصين !! إن تخلي الدولة عن سياسة الخصخصة عن طريق البيع لمستثمر رئيسي، و إعادة الحياة الي بعض القلاع الصناعية العامة التي منعنا عنها الاستثمارات لعشرين سنة، هي خطوات لابد أن تقود لمراجعة عامة للرؤية الاقتصادية التي تحكمت في سياساتنا منذ دخلنا عصر الانفتاح السبهللي و تصورنا أن رفع يد الدولة عن كل شئ هو العلاج الشافي لكل ما نشكو منه. و إذا كانت الأزمة المالية العالمية قد فرضت علي كل دول العالم مراجعة سياساتها، فإن الأزمة الأوربية التي بدأت باليونان و لا يعلم إلا الله إلي أين ستنتهي، لابد ان تفرض مراجعة جديدة علي العالم، و علينا نحن أيضا. فلن نكون بعيدين عن آثار الأزمة الجديدة حيث تمثل أوربا الشريك التجاري الأكبر لنا، و حيث تقدم لنا الأزمة إنذاراً شديد الأهمية حول خطورة الوقوع في مصيدة الديون و حول ضرورة التعامل بحكمة مع موارد الدولة و التركيز علي الإنتاج و ليس التبذير في الاستهلاك الذي يبلغ - عند بعض الفئات - حد السفه، و يؤدي في النهاية إلي العجز في الموازنة و إلي الوقوع في مصيدة الديون. إن سياسة الانحياز للفئات الغنية ليزداد غناها قد انطوت في كل العالم، و أوربا المأزومة تتجه الآن لزيادة الضرائب علي الأغنياء. والحزبان المتنافسان في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في بريطانيا لم يتفقا علي شئ قدر اتفاقهما علي ضرورة رفع الحد الأقصي علي الضرائب التصاعدية و التي تصل الآن إلي 40 ٪ من دخل الأغنياء .. بينما نحن مازلنا نتمسك بأن يكون الحد الأقصي هو 20 ٪ يدفعها الموظف و لا يتجاوزها الملياردير !! إعادة النظر في الحد الأقصي للضرائب أمر ضروري، و وقف نهب أموال الدولة في صفقات الأراضي و غيرها أمر لابد منه، و توزيع الأعباء ليتحمل الأثرياء نصيبهم العادل أمر لا يمكن تجاهله، و الضرب بيد من حديد علي الفساد و الاحتكار الذي يرفع الأسعار بلا مبرر خطوات ضرورية .. صحيح إن العجز في الميزانية و حجم الديون العامة عندنا لم تصل لحد الخطر الذي وصلت إليه في اليونان و غيرها، و لكن علينا أن نسمع جيداً الأجراس التي تدق في أوربا الآن، و أن نبادر بالعمل دون تأخير !! آخر كلام الصديق العزيز محمد الخولي تسلم في مقر اليونسكو بباريس جائزة الترجمة المقدمة من العاهل السعودي الملك عبد الله، عن ترجمته البديعة لكتاب " انهيار العولمة " .. هذا قليل من كثير يستحقه محمد الخولي، هذا المثقف الرائع الذي يحول الترجمة إلي إبداع حقيقي بما يمنحها من روحه و علمه و ثقافته، و من التزامه الوطني و القومي الذي يحكم اختياراته في الترجمة، كما يحكم كتاباته الصحفية، و يحكم - قبل ذلك وبعده - موقفه من الحياة و من البشر . مبروك الجائزة ل" أبو مني" .. أما عمولتنا فسنسمعها منه و ستكون بالطبع من مقام " حجاز كار" !! كل التحية لأطباء مصر و نقيبهم حمدي السيد علي موقفهم الحاسم ضد مشاركة طبيبين إسرائيليين في مؤتمر طبي عقدته شركة أجنبية في مصر. رفض التطبيع هو الموقف الثابت لشعب مصر، و النقابات المهنية هي الحائط الصلب الذي ستتحطم عليه كل محاولات الاختراق. المعركة حول " ألف ليلة و ليلة " هي معركة بين الأدب .. قلة الأدب!! " الأدب " .. هو الإبداع الذي يحتفي به العالم كله، و " قلة الأدب ".. هي محاولة مصادرة هذا الابداع !!