أخيرا وبعد "خراب مالطا" - وبعد أن أزكمت رائحة الفساد أنوف المصريين، طوال 17 سنة، هي عمر برنامج الخصخصة، الذي هدم أركان الاقتصاد المصري الأساسية، وحول معظم المصريين إلي متسولين، بعد أن شرد آلاف العمال- اعترفت الحكومة بأنها كانت تسير علي الطريق الخطأ، وأخيرا استمعت الحكومة إلي أصوات شرفاء المصريين الذين بح صوتهم وهم يعددون مساويء الخصخصة، وهاهو الوزير الذي أكمل سياسة البيع بعد عاطف عبيد، محمود محيي الدين، يعلن عن انقلاب في سياسة الخصخصة، بعد تصاعد المظاهرات العمالية، ويؤكد وقف بيع شركات قطاع الأعمال إلي مستثمر رئيسي. وقد بدأت شرارة تغيير موقف الحكومة، عندما وقف الدكتور زكريا عزمي في مجلس الشعب، وقال: "لعن الله الخصخصة" وطالب بتحويل "الحرامية" الذين نهبوا مصانع وشركات مصر إلي المحاكمة. وهكذا أعطي أحد أقطاب الحزب الوطني والمقرب من الرئيس مبارك إشارة واضحة وصريحة، لكل إعلامي حقيقي أن يتناول وبشجاعة وموضوعية قضية كانت وظلت مسكوتا عنها فترة طويلة، بل وطالب عزمي بإحالة المسئولين عن فساد برنامج الخصخصة الي النيابة العامة. وفي ظل هذا التصريح الشجاع تحت قبة البرلمان، والذي يعبر عن تيار واع ومستنير في الحزب الوطني، كان علينا كإعلام واع أيضا أن نسايره ونؤدي مهمتنا علي أكمل وجه، خاصة و أن ثمار الخصخصة المرة، يتجرع مرارتها غالبية المصريين الذين يعيش منهم أكثر من 40% تحت خط الفقر، وما مظاهرات واعتصامات العمال أمام مجلسي الشعب والشوري، التي ما تكاد تنتهي لتبدأ إلا ثمرة من هذه الثمار. جريمة بكل المقاييس ورغم تصريحات د. محمود محيي الدين الأسبوع الماضي في شرم الشيخ أمام مؤتمر الاستثمار الرابع لمحافظات شرق الدلتا، أجد لزاما علي كإعلامي مصري غيور علي بلده، أن أعيد فتح ملف الخصخصة، فهي جريمة بكل المقاييس، لابد من محاكمة مرتكبيها. وليس جديدا انتقاد الوطنيين الشرفاء، سواء من خلال المنابر الإعلامية أو تحت قبة البرلمان ذلك الاتجاه الحكومي للتخلص من كل ما يمت للقطاع العام بصلة وبيع المصانع والشركات الكبري والمهمة التي أقامتها الدولة في فترة الستينيات. وبالرغم من كل ذلك مضت الحكومة ضاربة عرض الحائط بكل الآراء مستمرة في عمليات البيع، التي تفتقد قواعد الشفافية والعدالة المعروفة علي مستوي العالم، مما أدي إلي تدمير الوطن، بدلا من إصلاح نظامه الاقتصادي. فقد باعت تلك الحكومة العديد من الشركات الناجحة، وتسببت في تدمير اقتصاد مصر وشركاتها العملاقة، وشردت ما لايقل عن 850 ألف عامل تحولوا بفضل حكومتنا، وبفضل بيع أصول المال العام إلي متسولين، ناهيك عن إهدار مئات المليارات من الجنيهات من حصيلة ما تم بيعه في إطار عملية الخصخصة خلال السنوات الماضية. ففي عام 1991 أعلن النظام عن بدء ما أسماه بتطبيق سياسات التثبيت والتكيف الهيكلي (الإصلاح الاقتصادي) زاعما انه يتجه لهذه السياسات مستهدفا تخفيض عجز الموازنة العامة، وخفض معدلات التضخم، واصلاح نظام صرف الجنيه المصري، وتحسين وضع ميزان المدفوعات، وزيادة معدل النمو الاقتصادي. وهي كلها دعاوي هاجمها المتخصصون، لأنه لايمكن الحديث عن زيادة معدل النمو الاقتصادي ببيع الشركات والمصانع المملوكة للدولة اي المملوكة للشعب، اي تجريف اصول البلد الاقتصادية ببيعها. كما أن الاصلاح الاقتصادي- ذلك المصطلح سييء السمعة-لا يتحقق الا بالانتاج وإنشاء مشروعات تضاف للمشروعات القائمة وليس بيع ما هو قائم وتبديده. وتاريخ برنامج الخصخصة، مليئ بالمرارة، وتفوح منه رائحة الفساد، فهو سجل أسود حافل بالنماذج الفجة التي صاحب بيعها ملاحظات واتهامات بالفساد والتربح والسعي العمدي لتدمير اقتصادنا القومي. وقد زعم النظام في بداية الخصخصة انه لن يقدم إلا علي بيع الشركات الخاسرة ومع ذلك تم بيع شركات كانت تحقق ارباحا وصلت نحو 100% من أصوله، وهي عمليات تمت في عهد وزارات كمال الجنزوري وعاطف عبيد ثم احمد نظيف وكلها وصفت بانها وزارات قادت اكبر عمليات تخريب للإقتصاد المصري، بشكل لم يتعرض له طوال تاريخه الحديث. وفي عام 1991 كان المطروح للبيع 314شركة الرابح منها اي التي كانت تحقق ارباحا ومع ذلك تم عرضها للبيع 254، بينما الخاسر منها لم يتجاوز ال60شركة سرقة وفساد وحتي نري حجم الكارثة وفداحة ما حدث نذكر أن البنك الدولي وعدداً من الهيئات العالمية قد قدر قيمة شركات القطاع العام بمبلغ500 مليار جنيه، كما قدر مركز الاهرام للدراسات االسياسية والاستراتيجية، وبنك الاستثمار القومي قيمة نفس الشركات بمبلغ 500 مليار جنيه، ومع ذلك فقد تم بيع 241 شركة من اجمالي 314شركة بحصيلة بيع 16مليارا و741 مليون جنيه، وبهذه الأسعار فإن حصيلة بيع القطاع العام كله كما قدر المتخصصون لم تتجاوز 22مليار جنيه، وحتي ينكشف المستور، وتتضح حقيقة المؤامرة التي تعرضت لها مصر، وللأسف نفذتها أياد مصرية، نؤكد علي أن معظم الصفقات التي تمت، تمثل فضيحة سياسية بجميع المقاييس، لابد أن يحاسب من تسببوا فيها، ولا أعلم كيف نصمت جميعا، ونبتلع ألسنتنا، ونترك من ينهبون المال العام يستمرون في جريمتهم بمباركة منا. ولم أر علي مدي التاريخ شعبا تنهب ثرواته بهذا الشكل المنظم، وهو يتعايش مع السرقة والفساد، ويرضي بهذا الكم من المعاناة والذل والمهانة، رغم ثرواته ومقدراته. وحتي أكون قد أديت واجبي مع غيري من شرفاء الوطن، أستعرض نماذج من عمليات البيع الفضيحة، حتي نعرف كم أننا شركاء في جريمة سرقة هذا الوطن، مع الحرامية، الذين يجب أن يحاكموا، وينالوا ما يستحقون من عقاب, شركة المعدات التليفونية وقبل أن أعود إلي تاريخ الخصخصة الأسود منذ بدايتها في عهد" وزير البيع"عاطف عبيد، أعود إلي أحدث قضايا الخصخصة التي ناقشها البرلمان مؤخرا، فقد كشف تقرير لجنة القوي العاملة حول شركة المعدات التليفونية، قيام المستثمر بالتحايل علي عقد بيع الشركة وتخطيطه لبيع أرض الشركة التي يصل ثمنها إلي أكثر من 350 مليون جنيه، رغم أنه اشتري الشركة كلها وبمعداتها والعاملين فيها ب 91 مليونًا فقط. وأشار تقرير لجنة القوي العاملة عن أوضاع الشركة أنها أنشئت عام 1960 بهدف تطوير معدات الإتصال في مصر، وقد خضعت لسلطة الدولة حتي عام 2000، وظلت تمثل دعما دائما لميزانية الدولة بما تحققه من وفورات وأرباح وصلت إلي مايقرب من 30 مليون جنيه، وكانت نسبة التصنيع المحلي تمثل 80% من إنتاجها وكان للشركة إسهام في التطوير الدائم لمهمات القوات المسلحة في السلم والحرب. وفي إطار الخصخصة أعلنت شركة الصناعات الهندسية عن بيع 90% من إجمالي أسهم الشركة لمستثمر رئيسي أو مجموعة من المستثمرين مع تخصيص نسبة 10% لإتحاد العاملين المساهمين بالشركة، وتم بيع 80% من الشركة في أكتوبر 1999 بمبلغ 2.91 مليون جنيه سدد منها 3.27 مليون جنيه تمثل 30% من قيمة الصفقة وتم سداد باقي المبلغ علي ستة أقساط نصف سنوية متساوية. أي أنه تم بيع الشركة بتسهيلات لانظير لها في السداد وبمبلغ كانت الشركة قادرة علي تحصيله من أرباحها خلال ثلاثة أعوام فقط، ليس هذا فقط بل قامت الحكومة بدعم المستثمر من خلال إعطائه عقود توريد بالأمر المباشر من الشركة المصرية للاتصالات بما يقرب من ملياري جنيه علي مدار خمس سنوات حقق من ورائها أرباحا طائلة. وبدلا من تدوير رأس المال لتحقيق الأهداف إستغل المستثمر هذه الأموال لإنشاء شركة أخري معفاة من الضرائب، يقوم من خلالها بتوريد المعدات اللازمة للشركة المصرية لصناعة المعدات التليفونية بأسعار مرتفعة جدا، وإستطاع بذلك أن يربح الملايين. وقام المستثمر عن عمد بتكبيد الشركة الكثير من الخسائر، وعمد إلي بيع أرضها لسداد المديونيات، مما زاد أوضاع الشركة سوءا وتراكمت عليها الديون ووصلت أحوالها إلي ضعف قدراتها التنافسية علي مزاحمة الإنتاج الصيني، وزيادة المصروفات الإدارية وإرتفاع قيمة الأجور لتعيين عمالة براتب يصل إلي 40 ألف جنيه شهريا وإرتفاع قيمة المخزون لسوء حالة البضائع وإرتفاع المديونية حتي 113 مليون جنيه، وطالب التقريرالدولة بأن تتدخل لإنهاء المعاناة التي يتحملها العاملون، وإزالة أسباب هذه المعاناة بما لها من ولاية دستورية وحق في فرض هيبتها وسيادتها علي أرضها ولصالح أبنائها، وطالب الحكومة بدراسة إمكانية إعادة تشغيل الشركة وعدم إعطاء الفرصة للمستثمرين بتصفية الشركة أو بيع الأرض المقامة عليها كما هي نيتهم، ومحاسبة رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب عن المخالفات المتعمدة لإحداث الخسائر. وقد اعترفت الحكومة علي لسان وزيرة القوي العاملة عائشة عبد الهادي بمخالفات المستثمر أيمن الحجاوي رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية للمعدات التليفونية التي أضرَّت بمصالح العمال والشركة، وإهداره للمال العام وهي مخالفات تقع تحت طائلة القانون. خصخصة علي الورق فقط ** وفي تقرير اللجنة عن أوضاع شركة إستصلاح الأراضي وشركات الري والأشغال العامة أكد أنه منذ تحولت ملكية هذه الشركات إلي إتحاد العاملين المساهمين حتي بدأت تتعثر وأخذت أوضاعها تزداد سوءا كل يوم بعد أن فقدت عميلها الوحيد الذي كان يوفر لها حجم أعمال بالأمر المباشر يغطي الطاقة الإنتاجية للمعدات واليد العاملة . وأكد التقرير أن عملية الخصخصة تمت علي الورق فقط لأن السداد الفعلي لأموال الشراء لم تدفع في شراء الشركات الثماني التي يعمل بها عشرة آلاف عامل. ويبلغ صافي حقوق الملكية 6.428 مليون جنيه في حين تبلغ جملة الإلتزامات 7.2 مليار جنيه وصافي الخسارة في تصاعد مستمر كما أن نسبة كفاءة المعدات في تناقص. وطالبت اللجنة الدولة بعودة هذه الشركات للوزارات الأم والإهتمام بعمليات الإحلال والتجديد والتطوير الفني للمعدات وتدريب العمال وسرعة تحديد الشكل القانوني المناسب لنقل هذه الشركات. من صنع المأساة ينهيها!! من جهة طالب تقرير لجنة القوي العاملة عن وضع شركة طنطا للكتان والزيوت، الحكومة بوقفة جادة لفرض الحل لمشاكل كانت هي الضلع الأكبر في إيجادها عندما باعت هذه الشركة لمستثمر سعودي هو عبدالإله الكعكي بمبلغ 83 مليون جنيه إستقر فقط علي خمسين مليون بعدما تم خصم ثمن الأرض والأصول الثابتة والمتداولة لضمان إستمرار نشاط الشركة والحفاظ علي إستمرارها وضمان حقوق العمال. وأكدت اللجنة ضرورة وضع ضوابط مشددة تحمي حقوق العمال من تعنت بعض المستثمرين وإعادة تشغيل الشركة وعدم إعطاء المستثمرين فرصة لتصفية الشركة أو بيع الأرض المقامة عليها. وللأسف بدلا من أن تأخذ الحكومة جانب العمال، وتعمل علي حمايتهم ضد من سرقوا أقواتهم وهدموا اقتصاد مصر، وبدلا من أن تحول الحكومة هؤلاء " الحرامية" كما أطلق عليهم النائب زكريا عزمي، إلي النائب العام، حضروزير الاستثمار محمود محيي الدين ليدافع عن برنامج الخصخصة وقال إنه مجرد وسيلة لتحسين الأداء الاقتصادي للدولة، وأنه لا يجب الهجوم علي برنامج الخصخصة "عمال علي بطال" لأن ذلك يمكن أن يهدد السلام الاقتصادي للدولة وللمجتمع. ومع احترامنا لما قاله الوزير، فلابد من محاسبة من تسبب في هذه الخسائر للدولة، وحول العمالة المصرية إلي مجموعات من المتسولين، الذين أقاموا علي أرصفة مجلسي الشعب والشوري بحثا عن حل، بعد أن أصبحوا عاجزين عن كسب قوتهم وقوت أبنائهم، وتوقفت بهم الحياة، وعضهم الفقر بأنيابه الحادة. وقد أصبح من المهين أن تتركهم الحكومة هكذا، في الوقت الذي ينعم فيه المستثمرون بخيراتهم وناتج جهدهم وعرقهم، بدون أي حساب ومساءلة، وأعتقد أن من صنع المأساة لابد أن ينهيها. خير الختام: ** ليس المهم هو وضع الخطط والاستراتيجيات، وإنما المهم أن يكون الهدف هو صالح الشعب، وليس تحقيق مصالح طبقة الأثرياء فقط. ** الأسبوع القادم نفتح الملف الأسود لبرنامج الخصخصة المصري، لنري حجم الجريمة التي ارتكبت في حق المصريين.