هل تتذكر فيلم أحمد حلمي »ظرف طارق»؟، بداية لا تذهب بعيداً فأنا لا أنتوي مناقشة الفيلم، إنما أكاتبك اليوم في الفكر وحده دون السياسة، علي أنني لا أضمن مكر السياسة وفضولها، فما فتئت تدس أنفها وتتمدد في فضاءات حياتنا وشواغلنا في عالم ما بعد السياسة الذي نعيشه علي خلاف القرن العشرين حيث كان التهافت علي القراءة والثقافة والفن والمسرح والأيديولوجيا والسياسة، بينما نعيش اليوم طبخة القرن الحادي والعشرين، حيث الطبق المفضل وسائط التواصل الاجتماعي ومنصاته والشغف المرضي بالعالم الرقمي والأتمتة وحقوق الأقليات والعولمة الظالمة وبطولات الوهم والتقاط صور النضال المصنوعة ووضعها علي »انستجرام» والفيس بوك وتويتر. هذا هو حال عالمنا اليوم ومجتمعنا الكبير الذي سماه سلافوي جيجيك »مجتمع الاستعراض والاستهلاك» الذي تحول معه »الفضاء الافتراضي» إلي »واقعية متوهمة» يعيشها الناس رغم علمهم أنها افتراضية، في عالم بات علي درجة خارقة من التعقيد والفوضي يستلزم كما يقول جيجيك، أن يكرّس الفلاسفة جهودهم في تفسيره، وليس كما فعلوا مع القرن العشرين الذي أمضوا قرناً كاملاً في محاولات كارثيّة لتغييره. »سلافوي جيجك» فيسلوف وسياسي وناقد ثقافي ولد 1949 في سلوفينيا، مدينة »لوبليانا» قبل تفكك يوغوسلافيا، يوصف بأنه آخر باحث عظيم برز من أوروبا. يعمل أيضا كباحث في جامعات ليوبليانا ولندن ونيويورك. تناول أفكاره المئات من الأكاديميين، حتي أنه في عام 2007 تم تأسيس »المجلة الدولية لدراسات جيجك» من أجل مناقشة أعماله، وفي تقديري فإنه نصف ليبرالي ونصف يساري، ينتقد الرأسمالية العالمية والليبرالية الجديدة معاً، ويقدم رؤي جديدة لإحياء النظرية الماركسية ونقد وتحليل الفلسفات الفرنسية والألمانية. من مؤلفاته: وجوه سامية من الأيديولوجيا، الصراع الطبقي الجديد، سنة الأحلام الخطيرة، الفلسفة في الحاضر، العنف: تأملات في وجوهه الستة، مرحباً في صحراء الواقع، الاستبداد ومستقبل العالم، لنبدأ التفكير الآن، وغيرها إنتاج غزير من الدراسات والمقالات والحوارات والمناظرات وحتي وثائقيات بثتها عنه محطات التلفزة الدولية الكبري. من كلماته التي علقت بذاكرتي: »أنا متشائم لإحساسي بأننا نقترب من أوقات خطرة، ولكنني متفائل لنفس السبب أيضًا. التشاؤم يعني أن الأمور ستصبح أكثر فوضي، والتفاؤل يعني أن هذه هي بالضبط الأوقات التي يكون فيها التغيير ممكنًا». وقوله: »أحياناً عليك أن تبحث عن قناع، قناع يجعلك تبدو كما أنت». ويا له من فيلسوف، وأيضاً ناقد سينمائي. ومادمنا استدعينا السينما، فلنعد لما أرسله لي م/ أحمد النجدي عن فيلم أحمد حلمي »ظرف طارق» حين طلب إليه مجدي كامل: »اعملي ساندويتش فول من غير سلطة طماطم»، ليرد عليه حلمي: »مفيش سلطة طماطم اعملهولك من غير سلطة طحينة». هنا يبدو المشهد ساخراً وقول حلمي لامنطقيًا، إذ مجدي طلب ساندويتش الفول بدون سلطة طماطم أصًلا! لكن في الواقع، بالإمكان تفهّم هذا الموقف إلي حد ما بالاستعانة بفلسفة جيجيك، وكذا جان بول سارتر. أولًا مع سارتر ومسألة الحرّية، فسواء اختار مجدي كامل عدم وجود سلطة طماطم أم لم يختر، فهو مجبر علي تناولها من دون سلطة طماطم، فالموقف محدّد مسبقًا، ولَإن كان يعتقد أن هو من اختار قرار عدم وجود سلطة طماطم، إلّا أن الظروف هي ما حدّد ذلك مسبقًا، ولم يعد الأمر بيده، وليس بإمكانه اختيار العكس أي وجود سلطة طماطم، أما حلمي فقد أدرك ذلك الأمر من البداية، لكنه أراد إعطاء مجدي الفرصة كي يكون لديه قرار حرّ، بالإمكان اختيار عكسه، أي عدم وجود أو وجود سلطة الطحينة المتوفّرة. والأمر الآخر متعلّق بمعني العدم في فلسفة سارتر، إذ عدم وجود سلطة طماطم، مختلف عن عدم وجود سلطة طحينة، وفي الحالتين يظلّ ساندويتش الفول نفسه، إلّا أن سياقه ومعناه يختلف، استنادًا للتوقّعات، وهي جزءٌ أساسي من التجربة المعاشة. أما مع سلافوي جيجك، فنذهب إلي سياق الاستهلاك في ظلّ الرأسمالية، إذ عدم وجود شيء، هو شيء في حد ذاته، ففي حال ذهبت إلي أحد متاجر التسوّق، ستجد منتجات مكتوبا عليها »خالية من السكر» و»خالية من الملح» و»خالية من الكافيين» و»خالية من المواد الحافظة»، ويعتبر المنتج الخالي من السكر أغلي من نفس المنتج الأقل صحّة، مع العلم أن المنتج الأول تنقصه مواد موجودة في المنتج الآخر! حينها تصبح المكوّنات »غير الموجودة» سلعًا قابلة للتسويق بقدر ما هي المكوّنات الفعلية! ف»عدم وجود سكر» منتج في ذاته ندفع ثمنه، نحن هنا ندفع ثمن الغياب والخلو. إنه يا عزيزي الوهم في »مجتمع الاستعراض والاستهلاك» حيث القوة الرهيبة للخيال والحلم الذي ينتجه »الافتراض» أكثر من استناده »الواقعي» علي العملة والنقد والبضاعة المادية والقوة الشرائية وغيرها. فلنبدأ التفكير الآن.