في حياة نجيب الريحاني نساء كثيرات، لكنه لم يحب بحرقة، ولم يلتهب قلبه إلا ست مرات فقط، ولم يبك في حياته إلا مرة واحدة عندما خفق قلبه لأول مرة! في سنة 1911 كان نجيب الريحاني موظفا صغيرا في البنك الزراعي، وكان لا يزال هاويا يتسكع علي أبواب المسارح مع زميله في البنك والهواية عزيز عيد، وانضم الاثنان إلي فرقة إسكندر فرح التي كانت تعمل علي مسرح"التياترو المصري" وبعد إلحاح سمح لهما مدير الفرقة بالجلوس في البروفات لمشاهدة التمثيل، كانت بطلة الفرقة قد تأخرت في الحضور.. وعندما ظهرت نهض كل من في المسرح من ممثلين وممثلات يستقبلون الممثلة الأولي، وتقدم مدير الفرقة ليقبّل يدها، التفتت البطلة من بعيد، فوجدت شابا غريبا لا يزال جالسا يضع رجلاً علي رجل، أجالت الممثلة الجميلة نظراتها في المكان، فلم تجد مقعدا واحدا خاليا، فسارت إلي حيث يجلس هذا الشاب الذي لم يكترث بها ووقفت بجواره، فاتجهت إليه جميع الأنظار، ارتبك الشاب ثم وقف وانحني لها وتناول يدها وقبلها كما فعل مدير الفرقة، كانت هذه جرأة لم تتعودها الممثلة الأولي من صغار الممثلين، ثم تخلي لها نجيب الريحاني عن مقعده، فشكرته وجلست مكانه، وبعد قليل قدم لها علبة سجائره، وفي اليوم الثاني بحثت عنه في البروفة فلم تجده، وفي ثالث بروفة كانت تجلس بعيدة عنه، وطلبت منه ان يشعل لها سيجارة، فقدم إليها علبة الكبريت، ودهشت الفتاة عندما فتحت علبة الكبريت، فوجدت بداخلها خطابا غراميا بحجم تذكرة الترام، وقد كتب فيه نجيب الريحاني هذه العبارة القصيرة: "هل تشعرين بما أشعر؟". فردت عليه بابتسامة، ثم بعد ذلك تطورت العلاقة بينهما إلي حب عنيف، وعرض عليها الزواج فرفضت دون ان تبدي له الأسباب، والحقيقة ان حالة نجيب الريحاني المالية لم تكن تساعده علي الزواج من ممثلة عادية، فما بالك بالبطلة التي تتقاضي مرتبها بالجنيهات الذهبية؟! كتب نجيب الريحاني وهو ممثل صغير مقالا في احدي المجلات قال فيه إنها تبادله حباً بحب، فغضبت عليه الممثلة الأولي، لأن مركزه الصغير لم يكن يتناسب مع مركزها، وبدأت تحتقره، فبادلها نجيب الريحاني احتقارا باحتقار! كانت هذه الفتاة أجمل ممثلة في مصر، وكان المعجبون يغرقون عتبة بابها بالهدايا الثمينة، ومنهم المجنون الذي يتخلي عن بعض ممتلكاته في سبيل ابتسامة أو نظرة، ولم يكن نجيب الريحاني يمتلك سوي خفة ظله، وفي أحد الأيام جاءها نبأ بأن نجيب الريحاني وعزيز عيد وممثلا اسمه علي يوسف، كانوا يدخنون الحشيش، فضبطهم قسم الأزبكية وكانت البطلة قد بدأت تحب الرجل الذي احتقرها، فاتصلت فورا بأحد أصدقائها من رؤساء النيابة، فأفرج عنهم في الحال، وقد بدأت قصة غرام نجيب الريحاني وصالحة قاصين في سنة 1911 وانتهت سنة 1912 عندما رأته ذات مرة يسير أمام التياترو متأبطاً ذراع فتاة فرنسية فارعة الطول، فكانت هذه أكبر إهانة لحقت بالممثلة الأولي فأمرت بفصله من الفرقة، الفتاة الفرنسية اسمها "لوسي دي فرناي" أجمل وأخلص فتاة عرفها الريحاني، تعرف إليها في أشد أيام بؤسه، ولم تدم العلاقة بينهما سوي ثلاث سنوات، فهجرها سنة 1916 بعد ان وقع في حب فتاة اسمها "دينالسكا" كانت تمثل أمامه في مسرحياته، ولم تستطع " لوسي " ان تحتمل فسافرت إلي فرنسا، ثم رحلت إلي البرازيل، وتزوجت من قنصل فرنسا هناك، وظلت وفية مخلصة له تراسله حتي مات، أما "دينالسكا " فهي من أب فرنسي وأم مغربية، عند ظهورها علي المسرح كانت تقابل بعاصفة من التصفيق، وتنهال عليها الهدايا، حتي إن أحد أثرياء الصعيد ألقي تحت قدميها بعقد من الماس قدر بألفي جنيه!، وفتر الحب بينها وبين الريحاني، فهربت من المسرح مع صديقه نجيب بعد ان جمعت ثروة طائلة أنفقتها في سنوات قليلة، افتتحت بارا صغيراً كان الريحاني الزبون الوحيد في هذا البار! بدأ الريحاني حياته فاشلا في الحب والتمثيل وكل شيء، لكنه لم يفقد ثقته بنفسه كعاشق وكفنان وظل يكافح في سبيل الحب والتمثيل تسع سنوات، أحب فيها ثلاث نساء.. وفي مرتين منهما كان يسطو عليه أحد زملائه فيختطف المرأة التي يختارها لتكون شريكة حياته، ولكن الظروف كانت تجيء دائما في خدمة نجيب، وقبل ان يقيد مصيره بمصيرها، تنكشف له الحقيقة.. فيقابلها بابتسامة ساخرة، وفي سنة 1919 سافر بفرقته إلي رأس البر، وهناك مثل علي مسرح الحياة نفس الدور الذي كان يمثله معه صديقه فاختطف قلب فتاة نمساوية اسمها " زالاتا "من صديقها المليونير الاجنبي الذي يقيم في المنصورة، ولكن هذا الحب لم يدم اكثر من ثلاث سنوات أخري واسدل عليه الستار سنة 1921 عندما سافر نجيب وفرقته إلي بيروت، وهناك أعطي مفتاح قلبه لبديعة مصابني التي جاء بها إلي مصر وأحدث وجودها ضجة، وكانت خامس امرأة في حياة الريحاني وقصة غرامه بها بدأت سنة 1921 وانتهت سنة 1924.. ظلا منفصلين أكثر من 20 سنة عاش خلالها نجيب طليقا، إلي ان التقي بالسيدة التي أخلصت له حتي لفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها، فسافرت بعد وفاته إلي أستراليا لتقيم مع ابنتها هناك. في حياة الريحاني ست نساء.. وثلاثة كلاب.. ففي 1916 أهدته "لوسي دي فرناي " كلبا من اصل ألماني سماه "بيدو"، وعندما مات الكلب حزن عليه وأغلق يوم وفاته أبواب المسرح، وفي 1923 سافر وبديعة مصابني إلي البرازيل وهناك أهداه احد أصدقائه كلبا اسمه"ديك"من النوع الذي يحرس الأبقار والغنم، كان ضخما.. فاذا وقف علي باب المسرح اعتدي علي جميع الخيول والكلاب والحيوانات التي تمر بشارع عماد الدين، فسماه الريحاني "ديك العضّاض "، أما الكلبة "تيتا" من أصل ألماني، أهدتها له جاراته بعمارة الايموبيليا، فكانت تلازمه في البيت والمسرح والمقهي، وبلغ بها الذكاء أنها كانت توقظه إذا قال لها أيقظيني مبكراً، وكانت تتشاجر مع كلب آخر تملكه جارة تقيم في نفس الدور، وفي احد الأيام التقي نجيب بهذه الجارة علي السلم، ودهش عندما رأي " تيتا " تنظر بعطف وحنو إلي الكلب الذي لم يكن يسلم منها، مما جعل صاحبته تبكي، سألها الريحاني عن سبب البكاء فقالت: "كلبي أصيب منذ يومين بالعمي"، بكي الريحاني في حياته مرتين، الأولي عندما غدرت به صالحة قاصين، والثانية عندما رأي هذا الكلب الأعمي!! آخر ساعة - يونيو1951