هناك من يري أن أوروبا تقدمت وازدهر الفكر التنويري في أرجائها بعد أن اتخذت من فيلسوفنا العربي ابن رشد نموذجا لها قبل أكثر من ثمانية قرون، وبعد أن قامت في أوروبا حركة رشدية قوية في الوقت الذي أهمل العالم العربي هذا التراث العظيم للمفكر الكبير. لقد تم إحراق آلاف الكتب بعد صدور الحكم علي ابن رشد بالنفي خارج قرطبة. وإذا كان ابن رشد قد انتقل إلي دار الخلود في العاشر من ديسمبر عام 1198م.. فإن الدكتور عاطف العراقي، أستاذ الفلسفة المصري وقف أمام محكمة جنايات المنصورة لمحاكمته في شهر مايو 1995 في قضية فكرية لها صلة بابن رشد!! وقدر له أن يكون أول استاذ للفلسفة يقف أمام المحكمة دون أن يجد بجانبه من يتحدثون عن حرية الفكر. ومشكلة ابن رشد مع معارضيه أن أفكاره مازالت حية تعبر عن فكر مفتوح، لا عن فكر مغلق. ومن هنا اقتحمت آراؤه الفكر الفلسفي العالمي من أوسع وأرحب أبوابه، لأنه يدعو إلي تأويل النص وعدم الوقوف عند ظاهر الشيء والتمسك بالنقد البنّاء وفتح النوافذ حتي لا نعيش بين جدران أربعة مظلمة وحتي لا يخنقنا الهواء الراكد، كما دعا إلي الأخذ بالعلم وأسبابه. كذلك يدعو ابن رشد إلي الحكمة، بمعني النظر إلي الاشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان، ويدعو إلي معرفة الموجودات بعقولنا وليس بالاستناد إلي قول من يدعونا إلي قبول قوله من غير برهان، ويطالب الذين يرددون الأقاويل من حكمتهم الشبيهة بالزخاريف.. بالبرهان. فقد كان فيلسوفنا يعتمد في نقل رأي من آراء القدماء »إذا كان قد ظهر للجميع أنه أشد اقناعا وأثبت حجة». ويري ابن رشد ان المعرفة الإنسانية تندرج من المحسوسات حتي تصل إلي المعقولات، ولا سبيل لهذا الاتصال إلا بالعلم، أي عند النقطة التي تصل فيها ملكات الانسان إلي أقصي قوتها، كما أن العلاقات بين الأسباب والمسببات تعد علاقات ضرورية ، ومن يلغي الاسباب ولا يؤكد علي وجودها، فإنه يلغي العقل الذي يدلنا علي أسباب هذه الموجودات.. ذلك أن الحكمة هي معرفة الأسباب التي تقوم علي منطق العقل. نحن إذن بازاء نسق فلسفي محكم يعبر عن ثورة العقل وانتصاره، ويقرر أنه النتيجة الضرورية لا تكون إلا من مقدمات ضرورية. إننا نشهد صفحة مشرقة تختلف جذريا عن زمن قتلوا فيه »الحلاج» وقطعوا أطرافه، وقتلوا السهروردي وقاموا بتكفير ابن عربي ونفي ابن رشد، مما دفع الشيخ الجليل محمد عبده إلي القول بأن سياسة الظلام هي التي روجت ما تم إدخاله علي الدين من أشياء ليست من الدين من قريب أو بعيد، وأن ما نسميه الآن إسلاما ليس بإسلام وإنما أفعال وأقوال تم تحريفها عن معانيها. يبقي لدينا تساؤل يثير الانزعاج: عقب تدمير المركز التجاري العالمي في نيويورك عام 2001، كشفت دراسة ميدانية أجراها فريق بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر أن 63٪ من المصريين يؤمنون بالخرافات، بينهم مثقفون ورياضيون وفنانون وسياسيون »!!».. هل هذه هي نفس النسبة الموجودة الآن؟ وهل تتزايد أم تتناقص؟!