فى الفكر الفلسفى يكون مقام العقل أعلى ما يكون.. فالبرهان العقلى هو أداة الفلاسفة فى تحصيل المعرفة وبلوغ شاطىء اليقين ومصطلح «الفلسفة» طارئ على اللغة العربية، أى أنه «تولد»، جاء إلى العربية بعد الترجمة عن اليونان.. فهل يعنى هذا أن مقام العقل لم يكن عاليا فى الحضارة العربية الإسلامية قبل الترجمة عن اليونان؟!. وهل يفهم من ذلك أو يُشتم أن العرب المسلمين لم يكن لديهم «فكر عقلانى» قبل أن تعرف لغتهم كلمة «الفلسفة»؟!. إن الجواب الأكيد على ذلك هو بالنفى! فالعقل - فى تراثنا اللغوى - يعنى: التفكير فى الأمور، ويعنى: التمييز الذى يتميز به الإنسان عن الحيوان، ويعنى: الفهم، وجمع الأمر والرأى.. أى أنه القوة المميزة للإنسان عن الحيوان. والقرآن الكريم يجعل العقل مناط التكليف والتكريم، ويذكره باللفظ فى تسعة وأربعين موطنا. وفى ستة عشر موطنا آخر يتحدث القرآن الكريم عن العقل مستخدمًا مصطلح «اللب» - أى الجوهر - للدلالة عليه والقدماء من علماء اللغة يقولون: إن العقل سمى «لبا» لأنه جوهر الإنسان وحقيقته!.. ولا نعتقد أن تراثا من المواريث الفكرية للأمم والحضارات يقف هذا الموقف العظيم من العقل يمكن أن يتهم أهله بالتنكر للعقل أو إغفال العقلانية قبل عصر الترجمة عن اليونان. وكذلك استخدم القرآن الكريم مصطلح «النُهى» بضم النون مشددة وفتح الهاء - للدلالة على العقل فى موضعين، لأنه هو أداة النهى عن القبيح من الأمور، ولوجوب الانتهاء والوصول إلى ما يأمر به!. وفى أربعة مواضع تحدث القرآن عن «التدبر» بمعنى: التأمل العقلى، والنظر العقلانى.. كما استخدم مصطلح «الاعتبار» فى سبع آيات، بمعنى:الاستدلال بالشىء، والنظر، والقياس. وأكثر من هذه الإشارات التى هى جزء من كل والتى تشهد بمكان العقل وعلوه فى تراثنا، منذ نزل القرآن الكريم، وقبل عصر الترجمة - فى القرن الثانى الهجرى - أكثر من هذه الإشارات يأتى استخدام القرآن الكريم مصطلح «الحكمة» دليلا على أن العرب لم يكونوا غرباء عن «الفلسفة»، حتى قبل الترجمة عن اليونان، وحتى قبل أن تعرف لغتهم مصطلح «الفلسفة»!. فلقد كانت «الحكمة»، تعنى - قديما - ضمن ما تعنى: الفلسفة، وكان حكماء العرب هم فلاسفتهم، حتى من قبل أن يظهر الإسلام.. والقرآن الكريم يستخدم هذا المصطلح فى تسعة عشر موضعا.. ومن بين آياته التى جاءت فى هذه المواضع ما يجتذب - بشدة - نظر المتأملين والمتدبرين - فعندما يقول الله - سبحانه وتعالى - لنبيه - ( صلى الله عليه وسلم ) ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل 125 - يصبح الحق مع فيلسوف كابن رشد «520 -595 ه - 1126 - 1198 م» فى تقسيمه أدوات المعرفة وطرق اليقين إلى:مواعظ خطابية للجمهور، وجدل للمتكلمين، وحكمة للحكماء الفلاسفة!. كما يصبح واجبا علينا أن نقف فى تدبر أمام قول الله سبحانه وتعالى للناس عن - رسالة - محمد ( صلى الله عليه وسلم ) (وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) - البقرة 151.. وقوله -سبحانه - لنساء النبى (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) الأحزاب:34 - فنحن لسنا أمام «النقل» - الكتاب - فقط.. بل امام «العقل» - الحكمة - أيضًا.. وسبيلنا ليست «المأثورات» وحدها، بل «الحكمة»، أى النظر العقلى والتأمل الفلسفى كذلك. وإن أمتنا تقرأ فى تراثها كلمات الجاحظ «163 - 255 ه - 780 - 869 م» التى يقول فيها «إن العقل هو وكيل الله لدى الإنسان» وكذلك القرآن فهما وكيلان جعلهما الله سبيلين لهداية خليفته - الإنسان» - ولا يعقل التخالف أو التناقض أو القضاء بين وكيلين لموكل واحد!. وذلك فضلا عن أن «النقل» الإسلامى القرآن - هو معجزة عقلية، تستنفر العقل كى يتعقل.. وليس معجزة مادية، تدهس العقل وتشله عن التفكير!.. ومقابل «العقل» فى لغة القرآن أن ليس «النقل»، إنما هو الجنون!.. فهل يعقل ذلك الذين لا يعقلون!