هو الطبيب الذي تعاطي جرعات السياسة.. ورغم مرارة الدواء فقد تحامل علي نفسه وتحمل آثاره الجانبية! .. تفتحت عيناه علي ملامح الشارع السياسي بانضمامه لجماعة الاخوان المسلمين في بداية شبابه.. دخل السجن أكثر من مرة.. وكان كل مرة يلتقط فيها أنفاسه من وحشية التعذيب يصرخ قائلا: »مصر لن تكون أبدا للفاسدين«! إنه الدكتور محمود جامع صديق السادات الذي لازمه كظله لسنوات طويلة.. ومثلما كان وفيا له في حياته، فهو مازال باقيا علي عهده مدافعا عنه في مماته.. نلمس ذلك في تأكيده علي أن خصوم السادات الذين ظلموه لن ينالوا منه، لأن التاريخ أنصفه.. يكفي الرجل أنه صاحب نصر أكتوبر 3791.. يكفيه أن استرد الأرض وحماها ولم يمنحها كهدايا وعطايا للحاشية من الفاسدين.. لقد كان السادات خبير سياسة ورجل دولة من الطراز الأول.. فقد حقق نجاحا لا يمكن انكاره في السياسة الخارجية.. أما فيما يتعلق بالوضع الداخلي فهو الذي أخذ من الأغنياء وأعطي الفقراء، وليس العكس كما حدث فيما بعد!.. وهو الذي كافح البطالة ولم يزد في عهده عدد العاطلين. ثم يحكي د. جامع في الحوار مع »الأخبار« كيف أصبح حسني مبارك نائبا بالصدفة.. وملابسات مبادرته بالاقالة قبل أن يقال.. ويتطرق إلي الثلاثي الذين كانوا وراء اعتقالات سبتمبر 1891 والتي مهدت الطريق إلي حادث المنصة.. وإلي التفاصيل.. قبل أن نبادره بطرح الأسئلة ليرسم لنا صورا ربما مازالت خفية عن الماضي الذي عاشه وعايش بطله، أراد د. محمود جامع أن يصحح لنا معلومة.. وهي أنه لم يكن الطبيب الخاص للزعيم الراحل أنور السادات.. إنما طبيبه الخاص كان الدكتور محمد عطية أستاذ القلب المشهور أطال الله في عمره وبحكم الصداقة بين جامع والسادات فقد كان في معظم الأحيان يتابع عملية علاجه وذلك تنفيذا لتعليمات د. عطية. العشاء الأخير ذاكرة د. جامع تستحضر أحداث الزمن البعيد.. فأواصر الود والصداقة بينه وبين السادات بدأت في مرحلة الشباب بحكم أنهما »بلديات« فعائلة جامع من كفر السادات.. وعائلة السادات هي الأخري من نفس القرية التابعة لمركز تلا منوفية، وانتقلت الأخيرة إلي ميت أبوالكوم، لكن 3 كيلومترات بين القريتين لا تعتبر مسافة فاصلة.. المهم أن هذه الصداقة توطدت عندما توسط السادات لدي عبدالناصر للافراج عن جامع الذي كان قد تعرض للسجن أكثر من مرة. تعال ننبش في أحداث ما بعد نكسة 7691؟ أعرف جانبا منها كما حكاه لي المرحوم السادات.. فالاحباط واليأس والخزي، وكذا الخوف من الغد، كلها مشاعر سيطرت علي الجميع بعد الهزيمة القاسية.. ولذلك اتفق ناصر وعامر علي التنحي معا.. علي أن يكون شمس بدران وزير الحربية وقتها رئيسا للجمهورية.. وطلب ناصر من عبدالحكيم عامر ألا يبلغ شمس، وترك ذلك الأمر في بيان التنحي.. لكن عامر أبلغ شمس قبل أن يتحدث جمال عبدالناصر للشعب ويعلن بيان التنحي.. ولأن بدران كان يكره سامي شرف السكرتير الخاص لعبدالناصر آنذاك، فقد تقمص شخصية الرئيس وطلب شرف تليفونيا ليقول له بالحرف الواحد: »انت قاعد عندك ليه.. أنا بقيت رئيس الجمهورية.. امشي اطلع بره«! فما كان من سامي شرف إلا أن تظلم لناصر.. وقبل أن يتصل الأخير بشمس بدران ليوبخه وصل محمد حسنين هيكل ولما عرف بما حدث قال قوله الفاصل »شمس بدران مين؟!.. اختاروا زكريا محيي الدين«! وحكاية العشاء الأخير؟ الواقعة المشار إليها في السطور السابقة حدثت في منزل عبدالناصر كما رواها السادات.. وكان عبدالناصر وحسين الشافعي وزكريا محيي الدين والسادات وسامي شرف في انتظار عبدالحكيم عامر علي العشاء.. لكن عندما دخل عليهم عامر قرأ الوجوه واستشعر أن كمينا ينصب له.. المهم أنه قبل أن ينطق بكلمة بادره عبدالناصر: »ايه اللي أنت عملته ده؟ فرد بلهجة حادة: هي محاكمة واللا ايه؟! وهنا قال السادات: عيب ياحكيم تكلم المعلم باللهجة دي فتطاول عليه وتطاول أيضا علي حسين الشافعي«.. ثم تركهم عبدالناصر وخرج من الجلسة، ليتبين بعد دقائق من خروج ناصر أن حارس عامر تم القبض عليه.. وكذلك الضباط وشباب قريته أسطال الذين تولوا حراسة منزله. وتم تحديد إقامته حتي وافته المنية! معني ذلك أنه مات مقتولا لا منتحرا؟ ربما.. لكن السادات لم يلمح بذلك في أي من جلساتي معه! السفير السوفييتي علاقة السادات بميت أبوالكوم لم تكن أثناء توليه الرئاسة فقط.. كانت قائمة قبلها وكان د. جامع شاهدا عليها حين كان نائبا للرئيس.. ويقدح الرجل الذهن عندما يقول: ذات مرة كنت أشرف علي علاجه من جلطة في الشريان التاجي.. دق جرس التليفون في منزله بميت أبوالكوم.. قمت بالرد علي المكالمة، فكان المتحدث السفير السوفييتي حينذاك.. أبلغته أن السفير يريد زيارتك للاطمئنان علي صحتك.. ونصحته بعدم الموافقة علي الزيارة خوفا علي حالته الصحية.. لكنه رفض النصيحة وقال: »أبلغه انني في انتظاره غدا.. يامحمود خليك ناصح السوفييت عارفين الحالة الصحية للرئيس.. وسفيرهم جاي علشان يعرف الوضع الصحي لنائب الرئيس«! وماذا بعد؟ تمت الزيارة في موعدها.. وفوجئت بالسادات الذي كان قبلها يتوجع فوق سرير المرض، يرتدي أشيك بدلة وأفخم كرافت ويتحدث مع السفير بكل اتزان وثقة وطلاقة ليوحي له أنه في كامل قواه الصحية، خاصة أنه كان قد أبلغني قبيل الزيارة بألا أذكر أي شيء عن الجلطة التي يعاني منها.. لكن المفاجأة أنه في صباح اليوم التالي للزيارة اتصلت الرئاسة بالسادات في منزله بميت أبوالكوم.. وقال لي المتحدث: »أبلغ السيد النائب ان السفير السوفييتي الذي زارك بالأمس، قد مات بالسكتة القلبية فور عودته لمنزله في المساء«!. هنا ضحك السادات وسحب أنفاسا عميقة من البايب وقال: »الله يرحمه.. ياتري هو كتب التقرير للكرملين عن حالتي الصحية ولا لأ«؟!.. وبعد ذلك بشهرين توفي عبدالناصر وأصبح السادات رئيسا للجمهورية. السادات والعبور السادات كما يعرفه د. جامع عن قرب، كان خبير سياسة ورجل دولة من الطراز الأول.. فعندما أصبح رئيسا سعي بكل جد واخلاص إلي تحرير الأرض والخلاص من عار الهزيمة.. وتحقق له ما أراد.. أخذ بثأر شهداء 7691 وحرر الأرض.. ثم يضرب د. جامع بقبضته علي المنضدة ليضيف: أعداء النجاح ماذا يريدون من الرجل حتي بعد ما مات؟ يكفي السادات إنجاز العبور.. فقد أبلي بلاء حسنا في فن الخداع والتمويه والمناورة وهو يخطط للحرب.. وشهد له ساسة العالم وكذا الأكاديميات العسكرية الدولية حيث أبهرتهم الحرب ونتائجها التي أنهت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي كثيرا ما زعم انه لا يقهر»!«.. يجب أن يعلم من ينبشون القبور أنه لولا نصر أكتوبر 3791 لبقيت سيناء محتلة حتي الآن.. بل كانت ستنضم كل مدن القناة إلي الاحتلال الإسرائيلي!.. يجب أن يعلموا أيضا أنهم فرسان بلا جياد.. فرفضهم لكامب ديفيد لا حرر القدس ولا صد الاحتلال الأمريكي عن العراق!.. وأن الرجل الذي أصبح في ذمة الله والتاريخ كان ناجحا في سياسته الداخلية بقدر نجاحه في السياسة الخارجية.. فهو الذي أخذ من الأغنياء وأعطي الفقراء، وليس العكس كما حدث فيما بعد.. واهتم بمحدودي الدخل طوال عهده.. وهو الذي كافح البطالة ولم يزد عدد العاطلين خلال سنوات حكمه.. والأهم من هذا وذاك انه استرد الأرض وحماها.. لم يوزعها كعطايا وهدايا علي حاشية فاسدة.. ثم لماذا لم يتم تعمير سيناء وتنميتها بعد أن حررها السادات؟ اسألوا حسب الله الكفراوي عن خطة السادات لتنمية سيناء والتي لم يمهله القدر لتنفيذها! سألنا: ألم يكن هناك أي فساد في عهد السادات؟ أجاب د. محمود جامع: »الكمال لله وحده.. لكن اذا اعتبرنا أن الفساد في عهد عبدالناصر كان بنسبة 08٪ فقد كان في عهد السادات 03٪ وفي عهد مبارك 002٪.. والأدلة أمام الجميع في فضائح الخصخصة.. وفي الاتهامات الموجهة لرواد سجن طرة.. نظام كامل متهم بسرقة مصر ونهبها.. أثرياء جدد خرجوا من قمقم الفقر والعدم ليصبحوا أسياد البلد»!«. مبارك نائبا ويواصل د. جامع استدعاء الأحداث من الذاكرة.. فبعد نصر أكتوبر وخلال احدي الجلسات بميت أبوالكوم قال له السادات: عايز أخلص من الحكم العسكري بالاسراع في تعيين نائب مدني فقال جامع: ياريت.. يبقي النصر الثاني لمصر بعد نصر أكتوبر.. لكن بعدها بستة شهور أصدر السادات قرارا حمل مفاجأة للكثيرين ومنهم عبدالغني الجمسي وزير الدفاع وقتها والذي ارتفع عنده ضغط الدم وأصيب بحالة هستيرية.. كان جامع مع السادات في استراحة القناطر.. وفجأة وصل حسني مبارك بالزي المدني وطلب منه السادات أداء اليمين كنائب لرئيس الجمهورية.. وبعد خروج الحضور ومغادرتهم المكان سأل جامع السادات عن سبب تغييره لرأيه والتراجع عن النائب المدني باختيار حسني، فرد قائلا: ظروف المرحلة تحتم ذلك كما أن مبارك ليس لديه الطموح الذي يدفعه لتجاوز حدوده.. يعني اطمئن، لن يزيد علي كونه مدير مكتب! ويبتسم د. جامع ابتسامة باهتة وهو يسرد ملحما آخر من الواقعة: السادات كان مطمئنا لعدم طموح النائب الذي اختاره.. وأشار إلي أنه سأله عن سبب ارتباكه أثناء أداء اليمين فقال مبارك بالحرف الواحد: »ياريس من شدة المفاجأة.. حضرتك من يومين كنت بتتكلم عن سوء حالة شركة مصر للطيران.. وعند استدعائي فرحت وتوقعت أن تسند إلي رئاسة الشركة، فلما زاد المنصب زادت الفرحة وحدثت الربكة«. لعبة الاستقالة سبحان الله.. السادات في نهاية عهده قرر تنحية حسني مبارك عن منصب النائب.. لكنه فشل.. ويشاء القدر أن يتنحي مبارك مجبرا عن رئاسة الجمهورية بعد ذلك! عموما تفاصيل اللعبة ينطق بها لسان د. محمود جامع موضحا ان توقع السادات خاب بشأن طموح نائبه الذي اختاره.. فقد بدأ مبارك مهام منصبه هادئا مطيعا، بعيدا عن الصراعات والمناورات.. لكن يوما بعد يوم أخذ يحشر أنفه في كل كبيرة وصغيرة، لدرجة أنه بات مكروها من طاقم الرئاسة وكبار معاوني الرئيس.. هؤلاء ضغطوا علي السادات بضرورة تنحيته وتعيين كمال حسن علي وزير الدفاع وقتها بدلا منه.. وفعلا بدأ التمهيد لتقليم أظافره فصدر القرار رقم 911 لسنة 0891 بتقليص اختصاصاته وتحجيمها، ووصل الأمر لدرجة أن البوستة الخاصة به كنائب كانت تعرض أولا علي منصور حسن الذي كان يشغل منصب وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية.. وهنا استشعر مبارك الخطر فتظاهر بالغضب وتعرضه للاهانة ثم كتب استقالته وجلس في البيت! ثم ماذا؟ محمد سعيد الماحي الذي كان مديرا للمخابرات العامة نصح السادات بضرورة تجديد التواصل مع الجيش.. وعمل السادات فعلا بالنصيحة وزار المنطقة الشمالية بالإسكندرية.. لكن المفاجأة كانت هناك.. القادة سألوا عن مبارك بكل حرارة ولهفة!.. فعاد السادات إلي منزل حسني مباشرة، صافحه وصالحه وطلب منه سحب استقالته والعودة لعمله! وسبب كل هذا التراجع؟ السادات أصيب 4 مرات بجلطة في القلب.. كانت صحته معتلة.. ولهذا أسند أمورا كثيرة لنائبه مبارك.. أخطرها أنه كان يوكل إليه الاطلاع والافادة باللازم علي تقارير المخابرات العامة ومباحث أمن الدولة والمخابرات الحربية.. وهي تقارير لابد من اطلاع أي رئيس عليها يوميا.. وكانت تحوي معلومات خطيرة.. ومن هنا وضع مبارك يده علي أسرار الدولة وانتهزها فرصة للتقرب من الجيش والتواصل معه آنذاك! يعني نفس لعبة المشير عامر.. الهيمنة علي الجيش؟ بالضبط.. لكن مبارك لعبها بذكاء. اعتقالات سبتمبر اعتقالات سبتمبر 1891 كانت عاملا مساعدا علي اغتيال السادات، حيث أمر وقتها باعتقال أكثر من ألف من معارضيه وأغلبهم كانوا من النخبة.. أحداثها يتذكرها د. جامع قائلا: طلبت من السادات وقتها أن يراجع نفسه ويقوم بالافراج الفوري عنهم ويضعهم تحت الملاحظة والمتابعة بدلا من الاعتقال بمعناه ومغزاه في ذلك الوقت.. لكن الثلاثي »كان يشحنه ضدهم«.. النبوي اسماعيل يزوده بتقارير تحمل قدرا كبيرا من المبالغة.. جيهان كانت عكس السادات، يضيق صدرها بالمعارضة.. حسني مبارك كنائب »كان عايزها تولع علشان يخلو له الجو«.. ذلك الثلاثي كان وراء اعتقالات سبتمبر التي فتحت الطريق أمام حادث المنصة. هل لديك أقوال أخري في ذكري نصر أكتوبر؟ أقول »رحم الله السادات.. بطل العبور الذي بنصر أكتوبر منع إسرائيل من الهيمنة علي المنطقة العربية.. أتذكر السادات الإنسان البسيط.. المتواضع وهو في جلبابه الأبيض يجالس الفقراء قبل الأغنياء في ميت أبوالكوم.. أتذكره وهو يتقبل العزاء في الشيخ عبدالحميد عيسي الذي كان يحفظه القرآن في كتاب القرية.. أعود بذاكرتي إلي قيامه برد الجميل لكل من ساعدوه وقتما كان مطاردا من البوليس السياسي قبل ثورة 32 يوليو 2591.. وأشهد أمام الله وأمام كل المصريين ان ذلك الرجل كان وطنيا خالصا.. عاش مصريا ومات مصريا.. رحمه الله.