كل من قاده حظه العثر واضطرته الظروف المعيشية الصعبة للتعامل مع مكاتب التموين سيدرك حتما ما سأقوله لإنها تجربة مريرة بكل ما تحمله الكلمة من معان ، وأدعو الله أن يخرجكم منها سالمين غانمين. البداية كومة كبيرة من الأوراق ما بين مفردات مرتب وصور بطاقات وشهادات ميلاد وإقرارات وغيرها ستجد نفسك مضطرا لتجميعها رغما عن أنفك والتوجه بها إلي مكتب التموين. وفي مكتب التموين سترى أهوالا يشيب لها الجنين في بطن أمه ، فمكتب التموين غالبا عبارة عن شقة ضيقة في مبنى متهالك ، تصعد اليها عبر سلالم بالية تآكلت تحت أقدام مئات البشر الصاعدين والهابطين عليها يوميا ، ولو لم تنتبه لخطواتك ستتعثر وتسقط و"مالكش ديه طبعا". تصل في النهاية إلى الشقة الضيقة التي يطلق عليها مجازا اسم مكتب ، وتفاجأ بكومة من اللحم البشري تسد مدخل الشقة لدرجة تجعل الباب غير مرئي بالنسبة لك. إذا كنت من المحظوظين ستتمكن من اجتياز هذه الموانع البشرية وستدخل إلى المكتب ، وهنا ستقول لنفسك ليتني مادخلت . ستجد عددا من المكاتب يجلس خلفها موظفين وموظفات متجهمين ولاتفارقهم التكشيرة ، يجيبون على تساؤلات المواطنين بعصبية وعجرفة وكأنهم يمنون عليهم بهذه الاجابات وليست من صميم عملهم الذي يتقاضون عنه مرتباتهم. الجدران لا تستطيع أن تميز لونها الاصلي .. الأرضيات أصبحت ترابية ولا تستطيع أن تجزم إذا كان هناك بلاط أصلا أم لا .. دورات المياه لاتصلح للاستعمال الآدمي أو حتى الحيواني .. المكاتب التي يجلس عليها الموظفون يعلوها الصدأ والكراسي متهالكة. باختصار البيئة غير صحية لأداء أي عمل أو تقديم خدمة جيدة وربما كان هذا سبب تجهم الموظفين وتعاملهم السيئ مع المواطنين الذين ليس لهم ذنب في حالة المكتب أو بيئة العمل غير الآدمية .. يعني باختصار ضحايا يتفننون في تعذيب ضحايا آخرين مستضعفين. وبعد ذلك تبدأ مرحلة "طلبك عند الاستاذ فلان ، وورقك محتاج توقيع الاستاذ علان ، وبطاقتك محتاجة تفعيل من مدام ترتانه .. ودوخيني يالمونه". وبعد ما تطلع من الخلاط تجد في انتظارك الجملة التاريخية التي تتكرر في كل الجهات الحكومية .. "السيستم واقع". هذه الجملة هي الحائط الصلب الذي تتحطم عليه آمال وأحلام المواطنين الحالمين باستخراج البطاقة لصرف حصتهم التموينية الموعودة. وتخرج من المكتب في النهاية رافعا شعار " ورضيت من الغنيمة بالإياب" ويدك خالية وقلبك مليئ ومثقل بالاحباط وتسأل نفسك.. لماذا لا يحصل المواطن على حقه بكرامة واحترام لآدميته ، ولماذا لا يتم توفير بيئة عمل مناسبة للموظف تساعده على أداء عمله على أكمل وجه؟! لماذا كل هذا الإذلال وكسرة النفس؟!