قرأت كتابا مهما للمعماري الكبير والمفكر الأستاذ الدكتور يحيي الزيني صدر عن جهاز التنسيق الحضاري الذي يرأسه الكاتب الاستاذ سمير غريب وقد أحسن صنعا بإصداره فهو بحق إضافة للمكتبة العربية وعنوان الكتاب هو (المدينة بين التنسيق والتأصيل) .. أهمية هذا الكتاب تنبع من مضمونه الواعي بالعمارة في الشارع المصري الذي كان نموذجا متفردا وأصبح الآن سمك.. لبن.. تمر هندي والسبب هو نحن وليس غيرنا ! اخترت من الكتاب فصلا بعينه عن تناقضات الشارع المصري يقول فيه: صورة الشارع المصري في الزمن الجميل تنقلها لنا الأفلام السينمائية والمطبوعات المصورة خلال العقود الخمسة الأولي من القرن العشرين وهي تعكس نظافة المظهر والجمال والانسجام والانضباط والتحضر وكل ما يتناقض مع ما آل إليه الشارع الآن من فجاجة وازدحام واغتيال للجمال وخنق للهواء ونشر للتلوث والسوقية في سلوك عابريه ! ويضيف د. الزيني أن القاهريين يشتركون علي اختلاف ثقافتهم وتحضرهم في هذه الممارسات بوعي أو بلا وعي لدرجة أصبحت معها هذه السلوكيات أسلوب حياة .. لقد كان الشارع في الزمن الجميل ملكا للناس لا للسيارات وكان الإنسان في شوارع المشاة المقياس الحقيقي للأشياء وكان للإيقاع الهادئ لحركة الناس والحياة في ذلك الوقت أثره في تهذيب السلوك والتعاطف الإنساني والانتماء الاجتماعي والتواصل الثقافي وكان الشارع المصري مصدرا للإبداع بكافة صوره التعبيرية والتشكيلية . وفقدت المنشآت المعمارية رونقها وبريقها خصوصا في وسط المدينة بسبب إهمال الصيانة وسوء الاستعمال وتتابعت قوانين البناء بثغراتها وأوصلت الشارع إلي الصورة المنفرة التي نراه عليها اليوم والتي تصل إلينا مكبلة بغلالة من الأتربة والعوالق وعوادم السيارات وأصبحت شوارعنا تفتقد النظافة ولا شك أن غياب النظافة في بلد تحض عقائده الدينية علي أن النظافة من الإيمان هو إهانة لأهله وإعلان عن تخلفهم ! ويشير إلي أن معدل الضوضاء والتلوث الصوتي في كبري ميادين القاهرة هو الأعلي في العالم ناهيكم عن مشكلة التلوث البصري المتمثلة في الكتابة علي الجدران وسيل الإعلانات الجارف غير المتوازن والقبيح بدون ضوابط أو جماليات أو مراعاة الذوق العام وهكذا اختلطت الأمور وتراجعت القيمة واستباحت الإعلانات سماء القاهرة ليسود مهرجان من الفجاجة والتنافر ويعيش الناس في ضجيج الأصوات نهارا وصراخ الألوان والأضواء ليلا . مطلوب إعادة الاعتبار للشارع المصري من خلال مشروع قومي ويجب تفعيل دور جهاز التنسيق الحضاري في عمران المدينة حتي تصبح شوارع القاهرة كما خططها الخديوي إسماعيل في القرن التاسع عشر .فالإبداع والإلهام مرتبطان بجمال الشارع المصري الذي ما يزال يمشي فيه الحمار والحصان وأخيرا التوك توك! حتي تعرفوا الفرق بين الأمس واليوم اسألوا أنفسكم .. هل عندنا طه حسين أو أحمد لطفي السيد أو محمود سامي البارودي أو المازني أو علي مصطفي مشرفة أو أحمد حسن الزيات أو العقاد أو أم كلثوم أو السنباطي أو عبد الوهاب أو محمد قنديل أو عبد الحليم حافظ أو أبو بكر خيرت.. الأمثلة كثيرة والقائمة تطول والاجابة لصالح الأمس!