بعض الفنانين يسعي إلي الشهرة ولا ينالها.. وبعضهم تسعي الشهرة إليه ولا يطيقها! بعد حياة حافلة إمتدت 88 عاماً إستخلص شارلي شابلن أن يوماً بلا ضحك هو يوم ضائع، وأن الحياة قد تصبح رائعة إذا تركك الناس وشأنك، وإنك لن تجد »قوس قزح» مادمت تنظر إلي الأسفل، ولا بد للمرء أن يكون واثقاً من نفسه. وعن ثقته بنفسه يقول: »حتي عندما كنت أعيش في ملجأ للأيتام في طفولتي وأهيم علي وجهي في الشوارع والأزقة بحثاً عن لقمة خبز أملأ بها معدتي الجائعة، حتي في هذه الظروف القاسية كنت أعتبر نفسي أعظم ممثل في العالم. كنت أشعر بالحماس الشديد يملأ صدري لمجرد أنني أثق في نفسي، ولولا هذه الثقة لكان مصيري النفايات». الاتهام بالشيوعية حين اتهمت الأجهزة الأمنية الأمريكية في أربعينيات القرن الماضي الممثل الإنجليزي الناشئ تشارلز سبنسر شابلن بالشيوعية قدمت من حيث لا تقصد أفضل دعاية للفكر الماركسي اللينيني. لكن ثبت بعد ذلك أنه برئ من هذه »التهمة». وقد وَضعتُ »التهمة» بين مزدوجين لأن الرأي ليس تهمة في كل الدول التي تحمل شعارات الحرية والتعددية والديمقراطية إلا إذا كان مقروناً بالعنف. التهمة: أن تحمل السلاح لإقناع الناس برأيك ومعتقدك. قبل اتهام شابلن ومحاكمته وبراءته وهجرته إلي سويسرا، كان هذا الشاب »صعلوك» الفن الذي يقف الناس احتراماً له. بعد اتهامه تخلي عن »الصعلكة» وأصبح »السيد فردو» ثم »الملك في نيويورك». كان مهرجاً جاداً يستخدم السخرية من نفسه أولاً في نقد المجتمع الذي يطارد الضعفاء ويحمي الأقوياء. جسد شخصية المتشرد الذي يحمل العالم علي ظهره كما قال الباحث الإستثنائي المصري سيد عويس في كتابه الرائع »التاريخ الذي أحمله علي ظهري»، وبهذه الشخصية وإنكساراتها صارت أفلام »حُمّي الذهب» و»أضواء المدينة» و»الأزمنة الحديثة» و»الدكتاتور العظيم» تتصدر تصنيفاًت أعظم الأفلام السينمائية في تاريخ الشاشة، ومن أيقونات هذا الفن الرفيع. كل نجوم الكوميديا الناجحين تخرجوا من مدرسة شابلن أولاً؛ السروال العريض والجاكيت الضيق والعصا والقبعة والحذاء الضخم، ونظرة اللامبالاة في عينيه وابتسامة القناعة علي شفتيه وهو يلتهم بعد جوع كافر الحذاء المهترئ في ذلك الكوخ الجليدي في فيلم »حُمّي الذهب». بذلك الفن الصامت وقف شابلن يلعن عدم العدالة في المشاعر والحب والخبز والحزن والسعادة. لغة العالم المشتركة تألق شابلن حتي اكتسحت ظاهرة »الشابلنية» دور السينما في العالم. كان أي فيلم له يعرض في القاهرة أو بغداد أو بيروت أو دمشق في عصر السلام والأمان الذهبي يعني غلق الطرق أمام دار السينما من شدة الازدحام علي شباك التذاكر. وكتبت إحدي الصحف الأمريكية تقول إن شارلي شابلن أصبح جزءاً من اللغة المشتركة بين دول العالم، وبدت صورة الصعلوك التي اشتهر بها مألوفة عالمياً، وصار زيه مطلوباً من الشباب »المتصعلك»، وقيل أن تسعة من كل عشرة رجال أمريكيين ارتدوا زي الصعلوك، ولذلك نجد في الأفلام الوثائقية القديمة التي تعود إلي تلك الفترة كثيراً من الرجال يرتدون زي شابلن! ومع تهافت المنتجين عليه وشعبيته الكاسحة انهالت الثروة عليه بعد أن أصبح شخصية عالمية بشهرة رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية أو أكثر. لكنه كان عادلاً في ثروته فاستغل جزءاً منها لتشييد استوديوهات سينمائية ضخمة ساهمت في صنع مجد السينما الأمريكية. ما الذي تفعله »الشهرة» في الحياة؟ كلما سألوا نجماً سينمائياً عربياً عن رأيه في الشهرة، بعد أن صار ما صار، أجاب إنها حرمته من كثير من الأمور التي يحبها! فهو لا يستطيع الذهاب إلي المطاعم العادية التي يحب طعامها، ولا يستطيع أن يتجول في الشوارع، أو يتسكع أمام »الفاترينات»، أو يقف مستمتعاً فوق جسر علي النيل، فالناس تحاصره في كل مكان بنظرات الإعجاب ولا تسمح له بأن يعيش حياته الطبيعية مثل أي إنسان. ما الذي يضايق النجوم في كل هذا؟ ولماذا هذه »الهالة» التي يحاول النجوم العرب أن يضعوها حولهم؟ لماذا لا يتصرفون بشكل طبيعي مثلما يفعل نجوم هوليوود الذين يمارسون حياتهم وسط الناس وفي ملابس اعتيادية وبسيطة؟ إنك تفاجأ فعلاً حين تكتشف إن مايكل دوجلاس يقف خلفك في الطابور لشراء سندويتش هامبرجر. هو نجم في السينما وفي الحفلات وفي المناسبات، لكنه مواطن عادي خارجها له معجبون ويتصرف مثل سائر الناس وسط زوجته وأولاده وأصدقائه. لكن للموضوع زاوية نظر أخري يرويها شارلي شابلن في مذكراته بعد أن اكتشف إن أسواق نيويورك تمتلئ بلعب تمثل شخصية شارلي السينمائية! وتلقي نصيحة من نات جوروين، وكان نجماً كبيراً من نجوم الكوميديا في المسرح الأمريكي: »هناك حياة رائعة تنتظرك بعد أن حققت نجاحاً كبيراً.. وعندما تذهب إلي نيويورك تجنب عيون الجماهير، فغلطة كثير من الفنانين الناجحين هي رغبتهم في أن يراهم الناس ويعجبوا بهم. وهذا الأمر لا يؤدي إلا إلي تحطيم صورتهم الخرافية في الأذهان! إنك ستُدعي إلي كل مكان، فلا تقبل. فما أكثر النجوم الذين إرتكبوا غلطة قبول كل دعوة إجتماعية»! إنه هنا! شارلي يتخفي! في القطار سائراً من سانتا مونيكا في ولاية كاليفورنيا علي المحيط الهادي إلي نيويورك علي المحيط الاطلسي وجد شارلي شابلن مظاهرة ترحيب به في كل محطة توقف فيها القطار أو مرّ بها، وموائد منصوبة ولافتات إعجاب وأشخاصاً يرفعون صوره ويرتدون قبعته ويلوحون بعصاه. وتبين أن البرقية التي أرسلها بموعد وصوله إلي نيويورك تناقلها عمال التلغراف في كل محطات القطار، فقرر عمدة كل مدينة أو قرية تقع علي السكة تنظيم إحتفال جماهيري لتحية شابلن! وحين غامر شارلي بتلبية دعوة بعضهم للنزول من القطار لدقائق حتي يراه الناس المرحبين إضطر البوليس للتدخل لانقاذه من أكداس البشر وإعادته إلي القطار! بل إن الصحف المحلية الريفية أصدرت طبعات خاصة تقول بعض مانشيتاتها: »إنه هنا»! و»شارلي يتخفي»! وفي احتفال آخر لم يستطع عمدة مدينة »أماريللو» في ولاية تكساس أن يقول في خطاب الترحيب عند محطة القطار سوي جملة ناقصة: »مستر شابلن بالنيابة عن معجبيك في أماريللو..» وضاعت بقية الخطبة وسط تدافع الناس وهتافاتهم.. »لكن وصلت الفكرة» كما يقول مذيع شهير في إحدي القنوات العربية عقب كل »خناقة» بين الضيفين! ما هذا الذي يحدث؟ حين وصل شارلي إلي نيويورك استغل ظلام الليل وأخذ يتجول في الشوارع ويتفرج علي واجهات الأسواق التجارية ويقف عند النواصي بلا هدف متسائلاً: »ما هذا الذي يحدث لي الآن؟ ها أنا في قمة نجاحي، مرتدياً ثيابي كاملة، ولا أجد مكاناً أذهب إليه؟ كيف يتأتي للانسان أن يعرف الناس؟ أن يعرف أشخاصاً يستمتع بمعرفتهم. كأن البشر كلهم يعرفونني بينما لا أعرف أحداً منهم. وإنطويت علي نفسي، أرثي لحالي، وقد سيطرت علي نوبة من الأسي». ويعلن شارلي بأسف إنه كان دائماً يتصور إنه سيستمتع بالشهرة وإنتباه الجماهير. لكن الشهرة كما يري، عزلته عن الناس وفرضت عليه إحساساً بالكآبة والوحدة. واكتشف إن برودواي (التي هي برودواي!) مجرد صحراء، وإنه وجد نفسه يفكر في أصدقائه القدامي الذين يتمني لقاءهم وهو متوج بهذا النجاح العظيم. لكنه استغرق في الضحك وهو يتذكر إنه نزل إلي المعجبين في الصباح في محطة قطار »أماريللو» علي عجل ناسياً إنه لم يحلق نصف وجهه الآخر! هل كان عام 1889 عاماً إستثنائياً بولادة النجم الكوميدي شارلي شابلن في 16 أبريل، وبعد أربعة أيام ولد الزعيم النازي أدولف هتلر؟ وفي نفس العام ولد الزعيم الهندي جواهر لال نهرو والأديب المصري طه حسين والأديب المصري أيضاً عباس محمود العقاد. الصعلوك، اللامبالي، الفضفاض إبتكر شابلن شخصية »المتشرد» بصورة عشوائية خلال عمله في أحد أفلامه الصامتة الأولي؛ إذ طلب منه المخرج تغيير ملابسه بأخري، فذهب إلي غرفة الملابس وإختار ملابس المتشردين، وصارت لصيقة به في معظم أفلامه الأولي وفي متاحف الشمع والدمي البلاستيكية ورسوم الكاريكاتير. وهو أول ممثل سينمائي يظهر علي غلاف مجلة »تايم» الأمريكية وكان ذلك بتاريخ 6 يوليو 1925 لمناسبة فيلمه الصامت »حُمّي الذهب». ولم يكتب الحظ له أن ينال جائزة الأوسكار عن تمثيله المدهش، لكنه نالها عن إعداده للموسيقي التصويرية لفيلمه »أضواء المدينة». وعلي الرغم من أن كل أفلام شابلن أمريكية، إلا أنه لم ينل الجنسية الأمريكية بسبب عدائه المستمر للحكومة التي عاقبته بحذف بصماته من ممشي هوليوود الشهير عقاباً له بعد اتهامه بالشيوعية. وهو الوحيد بين الممثلين والنجوم الذي سرق اللصوص جثمانه في إحدي مقابر سويسرا في محاولة لإبتزاز أسرته! وتم القبض علي اللصوص وأعيد الدفن بعمق ستة أقدام منعاً لتكرار السرقة. ونظريتي في الموضوع: إن بعض الفنانين يسعي إلي الشهرة ولا ينالها.. وبعضهم تسعي الشهرة إليه ولا يطيقها! كان شابلن واحداً من عناوين التحولات التاريخية التي شهدها العالم الجديد ممثلاً بالولاياتالمتحدةالأمريكية، أرض الاكتشاف والهجرة واللجوء. فهل تُنقذ »الشابلنية» بمعناها الصعلكي، اللامبالي، الفضفاض، العالم من عصر القلق الذي صارت فيه الولاياتالمتحدة، يا للمفارقة، بطلة الساحة والميدان؟ • صحفي عراقي مقيم بالقاهرة