فيروز الصوت الملائكى الدافئ فى برد الشتاء تهبك حرارة اللقاء، وفى ساعات الشوق تمدك بأمل الوعود، وفى حالات نسيان جمال الكون والانغماس فى تقنيات المدنية تأخذ بيدك إلى عالم الطبيعة الخلاب، فى صوتها عذوبة الربيع ،وأنفاس الصيف ،وعبق الخريف ودفء الشتاء.لا تسمع غناء فيروز ولكنك ترى الوجود محبًّا للحياة ،الكون والطبيعة والسماء بنجومها ،والأرض بحبالها ،والأشجاروظلالها ،والعشب فى سهولها،والسواقى والصخور،والفجروالليل والعصافيروالحمائم وطير الوروار، كل ذلك ينبض بحركة تتناغم مع نبضات القلب الذى يتسع اتساع الغابات. لا تجد لفظة فى أغانيها إلا قد امتلأت بالحيوية والحركة، لغة تدب فيها الحياة ولا تعرف السكون، حتى حينما تتغنى ب(سكن الليل) تجد فى ذاك الليل أحلام المشتاقين الذين لا يعرف النوم والسكون طريقًا لهم، والمساكن والدور التى كانت للسكن تدورأكثر من دوران الأنام حين تغنينا (يادارة دورى فينا..) هذا التحرك الدائرى الذى يرسم أبهى صور الجمال ليس تراسلاً للحواس فقط وإنما تصوير لعالم طفولى يحيا فى قلب الإنسان أيضًا مهما تقدم به العمر ومرت السنون، حركة تسرى فى جوانب الأغنية الفيروزية، الأهل يغادرون المكان فتغني(تركوا وراحوا) والهوى فايق، والقمر يجرى بخفة، ومياه البحر تعانق الشط (شط إسكندرية)، والفلك يرحل فى المغيب، هذه الحركة وهذا التنوع هو ما ينقلك فى الصباح وأنت ترتشف فنجان قهوتك إلى أماكن مختلفة فترى نفسك على شاطئ البحر ثم تخبر الجبل البعيد أن الأحبة خلفه لن تثبت فى مكان وأنت تسمع فيروز، صوت ينتقل بك من فصل إلى فصل آخر حتى تحيا فصول العام دفعة واحدة ؛تحبه فى الصيف وفى الشتا ثم تطالبه بألا ينساها، فقد عاد الربيع وهى تذكر الخريف، وإذا رجعت الشتوية تشدو (ظل افتكر فيّ) هذا النشاط للفصول المتتالية والحب الدائرى فيها يبعث الأمل ويثير نشوة البقاء.. كل الأغانى الفيروزية تغادر الحزن والألم، الهم يطير مع العصافير «ياهم العمر يادمع الدهر يامواسم العصافير» وقلبك يتسع للوحدة الأنين مسلكًا لصخب الموسيقى وصوت الناس فى الأغنية « سألونى الناس» والنسيم لا يكون لوحدك بل بجماعة « نسم علينا الهوى من مفرق الوادي» ليحيا المستمع فى بلاده نشوانًا « ياهوى خذنى على بلادي» بلادك فيها أجمل الصور والأحلام فيها الضياء والفضاء وحبك الأول الطفولي، فيها الطبيعة التى تأخذ عنك الألم ويذوب فيها الحزن فى شجر الجوز وورق اللوز وزهر التفاح. فيروز تأخذك دومًا من جمال إلى جمال فالعناقيد تراها كثريات الذهب، والحب الذى يصحو بعد زمن لا ينكسر على جانبيه المحبون؛ بل يصبح دعوة لاستمرارية الحياة ،والعيون لوزية تضحك لا تعرف الذبول. لقد جعلت فيروز من أغانيها صورة لجمال لبنان وشط الإسكندرية وبهاء القدس، كما أنها تأثرت بعوالم الموشحات الأندلسية وما فيها من طرب ينبض بجمال تلك الطبيعة الممتزجة بالنفس العاشقة: جادك الغيث إذا الغيث هما يازمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلما فى الكرى أو خلسة المختلس. لقد حرصت فيروز على أن تصل إلى كل مستويات الخطاب لتغدو أغانيها فى قلب كل عربى فقد صدحت للشاعر اللبنانى سمير عقل بقصائد منها: غنيت مكة أهلها الصيد والعبد يملأ أضلعى عبدا فرحوا فلألأ تحت كل سما بيت على بيت الهدى زبدا. فليس بمستغرب أن يفخر أنسى الحاج أنه من شعبها فهى بحق تجسد مسيرة عطاء تتدفق كنهر الليطانى حين نسمعها تشدو ( أنت الدنيا يا وطني). لم تكن دافعية الفرح فى أغانى فيروز من انتقاء الكلمة فقط وإنما من اختيارها لأساتذة الطرب وبهاء صوتها.لقد قدمت أكثر من 800 أغنية بألحان كبار الموسيقيين عاصى الرحبانى وابنها زياد وزكى ناصيف وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب حيث غنت له (ياجارة الوادي) و(سهار بعد سهار). قد تكون بعض أغانيها مثل «غزل البنات» تذوب فى فم الأطفال لكن تبقى فى ذاكرتهم وأحاسيسهم ترفع من وعيهم وتشكل طرائق تفكيرهم. أبواب العشق الطفولية تبقى زاهية فى نظر الأجيال والشعوب المختلفة ؛فأنت تزهوحين تسمع أغنية فيروزية من فرقة الموسيقار العالمى «أندريه ريو» ولا تضيق بك الطريق إذا عرفت أن موسيقى أغنية (يا أنا يا أنا ) فى الأصل كانت مقطوعة ساحرة لموزار (الحركة الأولى من السيمفونية 40) وتفخر أنها غنت للقدس (زهرة المدائن) وللشهداء أنهم (يبقوا مثل زهر البيلسان). ومن أعمال فيروز الملقبة ب« جارة القمر» و« جارة القدس» على مدار مسيرتها الفنية زخم من الأعمال المسرحيّة الغنائية من أبرزها باكورة ماقدمته على المسرح « جسر القمر» عام 1962 .كما قدمت ثلاثة أفلام سينمائية منها «بنت الحارس» إنتاج 1968. كما أنها قدمت برنامجا تلفزيونيا غنائيا بعنوان « الإسوارة» عام 1963. لم تكن فيروز صوتًا حالمًا فحسب، وإنما هى صوت السمو والبراءة والصبا أيضا، لم تعرف سوى الطرب والندى، كان فى صوتها أنفاس الناس ومسامعهم وأمالهم وعشقهم للحياة والوجود الساحر، تختار ما يعرفه العربى من شعر فصيح وتثرى لهجة لبنان بقاموس تراثى يروى عطش الشباب إلى المعرفة ، وتذيب ألم العاشقين فى ربوع الطبيعة، وتقفز بالأخيلة إلى النجوم والقمر، موسيقاها تعانق معانى الأغاني، وصوتها نسائم دافئة بالشتاء حانية بوضوح عن معانى الكلمات ؛بل تبعث فى كلماتها معانٍ كثيرة بنقاء صوتها واتساعه والتحكم فى طبقاته والتنقل بين المقامات والنغمات بسلاسة وهدوء. فيروز تمتلك عُربًا صوتية رائعة تستعملها فى المكان والزمان المناسبين وبوتيرة مناسبة تبهج المستمع بالمحافظة على الحنان فى صوتها برغم قوة صوتها المتدفق فى شريان الموسيقى ذات الإيقاع الجبلي. برغم عشقها للفن والغناء إلا أنها تقوم بدورها الأسرى من رعاية الأبناء الذين صاروا كبارا الآن وهذا درس تقدمه لمحبى فنها أن الحياة الفنية والعمل بالغناء لايعوق الفنان عن الإضطلاع بدوره الأسرى فهو ليس معوقا على الإطلاق ..ومن أطرف المواقف التى قفزت إلى ذهنى ماقصه علينا الإعلامى القدير «مفيد فوزي» فى أحد برامجه حين ذهب لزيارة فيروز فى منزلها بلبنان حيث وجد سيدة تجلس وتدق «الكبة النيئة» بالمدق وتفترش الأرض بمكونات الطبخة فما كان يتصور أن هذه السيدة هى نفسها الرائعة فيروز؛ فهى تزاول حباتها كأى ربة منزل متفرغة لشئون عائلتها ومتطلباتها..ياله من زمن جميل للفن والفنانين مازال عبيره باق فى صورة هذه الفنانة الرائعة التى يزدان بها الوسط الفنى عموما و الحقل الغنائى بوجه خاص .سفيرة عروبتنا تجمعنا حولها وتنقلنا بصوتها الشجى الأثير إلى عوالم أكثر رحابة فتنقلنا بغنائها على «هدير البوستة» حيث الحب والعشق لكل جميل من حولنا من ضيعة إلى ضيعة ومن بلد إلى آخر تسافر بنا لنبقى لا لنرحل بعيدا.