قال عنها الشاعر الراحل محمود درويش "هي الأغنية التي تنسي دائماً أن تكبر.. هي التي تجعل الصحراء أصغر.. وتجعل القمر أكبر"، إنها المطربة الكبيرة فيروز، والتي تحتفل هذه الأيام بمرور 80 عامًا علي ميلادها. الاحتفال بعيد ميلاد فيروز تجسد بصورة خيالية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، سواء من جمهورها أو من الفنانين الذين يعلمون جيداً قيمتها وحجمها. بدأ المطربون اللبنانيون الاحتفال بعيد ميلاد فيروز وسرعان ما انضم إليهم بقية المطربين للاحتفال بفيروز الصوت العذب، التي غنت لمصر ولبنان وكل الوطن العربي، صاحبة السحر الخلاّب والشجي الذي يداعب أوتار قلوبنا ويأسرنا صباح كل يوم عندما تشدو نسم علينا الهوي. إنها "جارة القمر، وقيثارة السماء، وياسمينة الشام، وصوت لبنان"، هي نهاد وديع حداد، مطربة استثنائية عرفت في عالم الفن باسم (فيروز)، ولدت في 21 نوفمبر عام 1935 بمحافظة جبل لبنان لأسرة فقيرة، انتقلت مع أسرتها إلي حارة زقاق البلاط في مدينة بيروت، حيث كان والدها يعمل بأحد المطابع، حاصلة علي بكالوريوس من المعهد الوطني للموسيقي. اكتشفها الموسيقي «محمد فليفل» الذي كان يجوب المدارس بحثًا عن مواهب يقدمها لكورس الإذاعة اللبنانية في الأربعينات، تمكن محمد فليفل من إقناع والدها بصعوبة بأن فيروز تُغني أغاني وطنية فقط وذلك نظرًا لأنها من عائلة مُحافظة. من هنا تبني الملحن محمد فليفل موهبتها فيما أصبحت جزءا من فريقه الذي كان يُنشد الأغاني الوطنية، وسرعان ما تلقت عرضًا للعمل كمغنية في كورس الإذاعة عندما استمع إليها مدير الإذاعة اللبنانية (حليم الرومي)، الذي أطلق عليها «فيروز»، تعرفت حينها علي «عاصي الرحباني» الذي قدمها في أغنية «عتاب» مما لاقت نجاحًا كبيرًا في سماء لبنان. تزوجت (جارة القمر) عام 1955 من الموسيقار عاصي الرحباني وهي تزداد تألقًا علي المستوي الفني والأسري، أنجبت منه زياد عام 1956، هالي عام 1958، ليالِ عام 1960، ريما عام 1965، ورث ابنها (زياد الرحباني) حُب الموسيقي من والده وقام بتلحين عدد من أغانيها التي قدمتها في ألبوم «وحدن» عام 1981م. غنت للحب والأطفال، والقدس لتمسكها بالقضية الفلسطينية، وللحزن والفرح والوطن والأم، وتم تقديم عدد كبير من هذه الأغاني ضمن مجموعة مسرحيات من تأليف وتلحين الأخوين رحباني أيضا وصل عددها إلي خمس عشرة مسرحية. في أول مقابلة صحفية من الأرشيف اللبناني لفيروز تقول إنها لم تختر اسمها الفني لكن أحبته، 80 عاما، ولا تزال فيروز نبضا وطنيا جامعا ولا تزال ظاهرة عشق عربية لم تدرس أسرارها بعد، هذه الفتاة الآتية من بيئة متواضعة، ومن منزل صغير وفقير في حي زقاق البلاط البيروتي، تمكنت من أن تتدرج في الإذاعة اللبنانية من مغنية في كورس، إلي معشوقة عربية، ونجمة محلقة، ألهمت مستمعيها من المحيط إلي الخليج. لقاؤها بعاصي ومن ثم زواجها منه كان المنعطف. هي كانت الصوت، والأخوان الكلمة، كما قالت فيروز نفسها، في إحدي مقابلاتها. اجتمعت المهارة الفيروزية إلي العبقرية الرحبانية لتشكل مدرسة فريدة في الغناء العربي. وقد غنت للوطن والطبيعة والبحر والقمر وللعواصم والمدن العربية، استطاعت بصوتها أن توحد اللبنانيين في وقت كانت لبنان تعج فيه بالحرب الأهلية هذه الحرب التي فقدت فيها فيروز ابنتها فمن منا لا يذكر أغنية "شادي" التي جسدت مأساة الحرب الأهلية في كلمات بسيطة ومركزة كانت أقوي من طلقات الرصاص. ولم تنس فيروز أمتها العربية فغنت لأغلب الدول العربية ونذكر منها علي سبيل المثال،"مصر عادت شمسك الذهب.. وشط إسكندرية"، كما غنت لسوريا "نسمت من صوب سوريا الجنوب ، ويا شام عاد الصيف"، وغنت للمملكة العربية السعودية "غنيت مكة"، وكانت القضية الفلسطينية في قمة أولويات السيدة فيروز فغنت لفلسطين الكثير من الأغاني منها "أنا لا أنساك فلسطين، وسلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة، والقدس العتيقة وزهرة المدائن"، مما جعل الشاعر الراحل محمود درويش يقول:" قدمت فيروز والرحبانية لفلسطين ما لم يقدمه الفلسطينيون أنفسهم، وأشهر الفلسطيني هويته الجمالية بالأغنية الفيروزية حتي صارت هي إطار قلوبنا المرجعي، هي الوطن المستعاد وحافز السير علي طريق. "جارة القمر" كما يحلو للبنانيين أن يطلقوا عليها ستبقي بفنها وصوتها العذب برصيد بلغ أكثر من 40 ألبوما غنائيا و23 من الاسكتشات الغنائية و15 مسرحية وثلاثة أفلام سينمائية، بالإضافة إلي رصيد من الحفلات لا حصر له، ورصيد هائل من الأوسمة والجوائز والتكريمات ، كان آخرها تحويل منزلها في "زقاق البلاط" ببيروت، والذي شهد مولدها ونشأتها إلي متحف. القوافل". وخلال الاحتفال ب80 عاماً علي ميلاد فيروز استخدم المهنئون هاشتاجاً بعنوان "من قلبي سلام لفيروز" علي جميع مواقع التواصل الاجتماعي وكان من أجمل الذين كتبوا عن فيروز المطرب مارسيل خليفة: "لولا فيروز لكنت يتيم الأم. كنت أحمل سنين قليلة وأمشي ولداً علي الطريق الطويل في اتجاه الأغنية، أبحث عن أمّي. وحدنا يا ورد راح نبكي". هذا هو طعم أغنية فيروز الأول. فتشت فيها عن أمي وبعد سنين فتشت عن حبيبتي وفتشت فيها عن وطني وليس المكان الذي ولدت فيه هو وطني، صوتك هو وطني. شموع كثيرة تضاء لفيروز اليوم في عيد ميلادها لكنها أقل من الشموع التي أضاءتها طيلة 80 عاماً للعشاق، للحب، للحرية وللوطن.. فيروز غني كثيراً لأن البشاعة تملأ الوطن". فيروز حكاية وحدوتة كما وصفها الشاعر الراحل محمود درويش صوت جارة القمر، كأنها قديسة تتعبد وعلي رأسها هالة من نور، تغني فتحسب أن صوتها رنين لأجراس الملائكة، فيروز الصوتي الشجي والإحساس العذب..صوت أنيق تقف صاحبته في وقار علي المسرح وجهها ينضح كبرياء، لا يضحك أبدا وإن ضحك الصوت وشاغب إحساسه الأسماع، تخرج صوتها من غمده، فيغرد خفيضا «أهواك بلا أمل»، أو يدق أبواب القلب بقبضة من «دو ري مي فا صول» في «الغضب الساطع»، بينما تهدهد الإحساس في رقة ب (تك تك تك يا أم سليمان).