الفيروسات التي تؤثر علي سوق اللحوم، ليست فقط تلك التي تصيب المواشي، ومن ثم يقل المعروض، فترتفع الأسعار، لكنها -أيضا- تلك التي خلقتها سياسات النظام السابق، فخلفت أمراضا لا تزال تسري في جسد هذا السوق الهام وتؤدي لنفس النتيجة.. التجار بدورهم أكدوا أنهم لا يملكون علاج هذه الأمراض، مؤكدين أن »الروشتة« لابد أن تخرج من وزارة الزراعة.. لكن هذه المحاولة للتنصل من المسئولية لا تجد قبولا عند »حركة مواطنون ضد الغلاء« التي حملت التجار جانبا من المسئولية، لكنها في نفس الوقت اعتبرت أن تغيير سلوكياتهم جزء من منظومة شاملة للعلاج لابد أن تخرج من مكتب د.عصام شرف حتي لا تتفاقم المشكلة .. وما بين هذا وذاك نفذ أهالي قرية بمحافظة الدقهلية تجربة ساهمت في تخفيض أسعار اللحوم بالاستغناء عن خدمات التاجر، ورغم إشادة جمعيات حماية المستهلك بها، إلا أنها قذفت بمسئولية تنفيذها في ملعب الحكومة. البداية كانت جولة قامت بها »الأخبار« في سوق اللحوم، حيث كشفت عن ارتفاع الأسعار لتتعدي في بعض المناطق سعر ال65 جنيها للكيلو.. المستهلكون بدورهم لا يعرفون لهذه المشكلة سببا إلا »الجزار« ويتهمونه بالجشع والمبالغة في السعر، وهو ما عبرت عنه فادية محمد »ربة منزل« من مدينة نصر بقولها: »مش عارفه الناس بعد الثورة المفروض تتغير ويكون قلبها علي بعض، لكن اللي بنشوفه دلوقتي والله عيب«. واستطردت: »أنا كنت بشتري الكيلو قبل الثورة ب 57 جنيه، مين يقول انه وصل الأيام دي ل 65 جنيه«. الثماني جنيهات التي أضيفت علي سعر كيلو اللحوم في المنطقة التي تقيم فيها »فادية«، لم تقبل »نجلاء إبراهيم« بدفعها في منطقة »الدقي« واضطرت إلي التضحية بجودة اللحوم علي حساب السعر. وتقول: »الجزار كان بيبيع قطع اللحوم المميزة بسعر 55 جنيه للكيلو، ودلوقتي بيبيع القطع المميزة بسعر 65 جنيها، والقطع اللي فيها نسبة دهون بسعر 55 جنيه وأنا بصراحة مقدرتش ادفع الفرق ده فضحيت بالجودة علي حساب السعر«. وبدرجة أقل حدة عانت من نفس المشكلة »فوزية محمد« بمنطقة بولاق أبو العلا، حيث تدفع هذه الأيام 55 جنيها في سعر كيلو اللحوم الذي كانت تشتريه ب 52 جنيه. بين الجزار والتاجر والمنتج الجزارون بدورهم يرفضون تحميلهم المسئولية ويردون علي اتهامات المستهلكين بأنهم يشترون المواشي بسعر مرتفع من التجار، ومن ثم ينعكس ذلك علي سعر اللحوم. وقال فتحي فوزي"جزار": " أنا لما أشتري بسعر مرتفع من التاجر، لازم أبيع بسعر مرتفع، وبعدين أنا لا أجبر حد علي الشراء " . وأكد إبراهيم شوكت " جزار " علي نفس المعني، نافيا اتهامهم ب "الاستغلال"، وقال: " يا ريت الناس تعرف أن المواشي علي ما بتوصلنا بتمر علي كذا واحد، وكل واحد يضيف شويه علي السعر، المفروض يعني اننا نخسر عشان الناس تنبسط". هذا الاتهام الذي وجهه الجزارون للتجار وصفه التاجر "عزت أبو الغيط" بأنه "افتراء" وقال: " إحنا ما بنرفعش السعر بدون سبب، المشكلة في سوق اللحوم بمصر هذه الأيام أن المعروض من المواشي قليل ". ويطرح أبو الغيط حلا لهذه المشكلة، وهي أن يتم طرح المواشي التي يتم استيرادها من الخارج حية في الأسواق بدلا من ذبحها في سفاجا وطرحها في الأسواق حية. ويقول: " طرحها حية هيعمل توازن في السوق يؤدي لزيادة المعروض ومن ثم ينخفض السعر " . ويستطرد: " الإصرار علي ذبح اللحوم بدلا من طرحها حية، كان لخدمة مستورد علي علاقة بفتحي سرور، وهذا المستورد أصبح (حوت السوق) " . ويطرح عبد الواحد محمد " تاجر " نفس الاقتراح الذي أشار إليه أبو الغيط، وهو طرح المواشي حية بالأسواق بدلا من ذبحها لإحداث توازن في السوق، ويقول: " إذا كان السياسات قبل الثورة لم تعالج المشكلة ، فلماذا لم تبادر الحكومة بتغيير السياسات حتي الآن". ورغم أهمية الطرح الذي قاله " التجار "، إلا أن د.سعد الحياني رئيس الرابطة المصرية لمنتجي الجاموس يرفض في الوقت ذاته القول بأن هناك قلة في المعروض. وقال: "المعروض كتير، بدليل أن السعر انخفض، مش زي ما التجار بيقولوا". وأوضح د.الحياني أن سعر الجاموس الحي انخفض من 22 جنيها ونصف للكيلو إلي 21 جنيها، كما انخفض سعر كيلو البقري من 25 جنيها إلي 23 جنيها ونصف الجنيه. ويرسم الحياني خارطة طريق للعلاج، تتحمل الحكومة والمستهلك بعض من المسئولية فيها، حيث يجب علي الحكومة أن تضع حد أعلي للأسعار لا تتجاوزه، كما يجب علي المستهلك أن يقلل بعض الشيء من استهلاكه للضغط علي الجزارين لأنهم كما يؤكد رئيس رابطة منتجي الجاموس يرفعون الأسعار بلا مبرر. تجربة تفض الاشتباك تبادل الاتهامات بين الجزار والتاجر والمنتج يكشف عن مشكلة تعدد "الوسطاء" في سوق اللحوم، حيث يضيف كل وسيط علي السعر إلي ان تصل اللحوم للمستهلك بسعر مرتفع. وكان مزارع بإحدي قري محافظة الدقهلية قد نفذ تجربة عملية لعلاج هذه المشكلة، وتم تعميمها في كل أرجاء القرية، حتي بات هناك "جزار لكل منطقة ". وترجع هذه التجربة إلي قبل أربع سنوات من الآن، حيث دخل أحمد عبد المولي (مزارع من أبناء قرية ميت تمامة التابعة لمركز منية النصر بمحافظة الدقهلية) في نقاش حاد مع أحد جزاري القرية حول سعر كيلو اللحوم، حيث زعم الجزار وقتها أنه لو باع الكيلوجرام بأقل من 35 جنيها- سعر الكيلو وقتها - فسيتعرض لخسائر فادحة، فقرر عبد المولي ذبح أحد رءوس الماشية التي يربيها في حظيرته، وتحدي الجزار أن يبيع الكيلو ب30 جنيها فقط. كان عبد المولي يخطط وقتها أن تكون تجربته وقتيه فقط، وفي إطار تحديه للجزار، غير انه حقق مكسبا كبيرا لم يكن يتوقعه، فقرر شراء ذبيحة جديدة بنفس الأموال، ثم قرر تخفيض سعر البيع مرة أخري ليصل بسعر الكيلو إلي 25 جنيها فقط، بفارق كبير يصل إلي أكثر من 25٪ بالمقارنة بأسعار جزاري القرية، وكانت المفاجأة أن الذبيحة تم حجزها لأهالي القرية قبل ذبحها، ووقف الأهالي في طابور للحصول علي اللحم بالسعر المناسب. هذه التجربة التي تناقلتها منتديات إليكترونية، نقلا عن موقع للقرية دشنه شبابها علي الإنترنت، كشفت عن جشع جزاري القرية، فكان رد فعلهم الانتقامي هو إطلاق حملة شائعات استهدفت ذبائح عبد المولي ، حيث زعموا أنها "مريضة"، وإمعانا في طعن تجربته سربوا للأهالي أنهم شاهدوه يبحث عن الذبيحة "الكبيرة" في أسواق القري المجاورة ليحقق أعلي ربح، وربما يفوق أرباحهم. ورد عبدالمولي بطريقة عملية علي حملة الشائعات، فقبل أن يبدأ عملية الذبح اليومي كان يقوم بعمل "زفة" شعبية للذبيحة، وهي طريقة كانت معروفة في قري مصر، حيث يقوم الجزار باستعراض الذبيحة في شوارع القرية والأطفال خلفها يرددون بعض الأغاني.. وطلب عبد المولي أن يردد أطفال القرية نداء محددا، حيث يجر في يده رأس ويقول: "بكام يا ولاد".. يرد عليه الأطفال "بخمسة وعشرين". ونجح عبد المولي بخطوته هذه في بث رسالة طمأنينة إلي قلب زبائنه نحو الذبيحة التي يشاهدونها بعيونهم قبل أن تتم عملية الذبح ، وشجع نجاح التجربة عددا آخر لخوضها، حيث بدأ أكثر من عشرة مزارعين في ممارسة مهنة الجزارة علي طريقة عبد المولي. ومع تحول هؤلاء لمهنة الجزارة أضطر الجزارون الأصليون لتخفيض الأسعار بعد أن أشعل عبد المولي وأقرانه نار المنافسة وكسروا احتكارهم للحوم. رجال نظام مبارك نموذج قرية ميت تمامة لاختصار مراحل وصول اللحوم للمستهلك، استلهمته حركة " مواطنون ضد الغلاء " ونفذت تجربة شبيهه أوائل عام 2010 في وقت كان كيلو اللحم وقتها يباع ب 50 جنيها، ويصل في أماكن أخري إلي 55 جنيها. وقامت الحركة بالتعاون مع شباب جمعية "إبني بيتك" بشراء عجل من سوق المناشي وقامت بذبحه (بمدبح) الوراق، وباعت وقتها كيلو اللحم بسعر 28 جنيها، وهو السعر الذي يغطي تكلفة الشراء. ورأت الحركة وقتها أنهم إذا كانوا يغطون تكلفة الشراء ببيع الكيلو بسعر 28 جنيها، فإن بيع الكيلو بسعر 35 جنيها علي أقصي تقدير، يمثل ربحا معقولا للجزار، إذا كان يريد أن يكسب لا أن يذبح المستهلك. ورغم نجاح هذه التجربة إلا أنها لم تكن تمثل بالنسبة لحركة "مواطنون ضد الغلاء " علاجا حاسما للمشكلة، وأقدموا علي تجربة أخري أثبتت نجاحا كبيرا في المناطق التي نفذت فيها، إلا أن رجال نظام مبارك أفشلوها للسيطرة علي سوق اللحوم. ويقول محمود العسقلاني رئيس الحركة:" كانت تجربتنا تقوم علي شراء المواشي من السودان وذبحها هناك ، ثم بيعها في منافذ تابعة للحركة بسعر 25 جنيه للكيلو". وبعد أن نجحت تجربة الحركة وساهمت في إحداث التوازن بسوق اللحوم، بدأت أيادي النظام السابق تتربص بها. ويحمل العسقلاني رجل الأعمال إبراهيم كامل وإميل اسكندر مستشار وزير الزراعة الأسبق د.يوسف والي مسئولية فشل هذه التجربة للسيطرة علي سوق اللحوم. ويقول: " قاموا بالسفر للسودان ووعدوا التجار هناك بشراء المواشي الحية بسعر 13 جنيه سوداني للكيلو، بدلا من مبلغ ال 10 جنيه التي كنا ندفعها ". ويستطرد: " ويا ليتهم فعلوا واستوردوا، حيث لم يدخلوا لمصر ولو كيلو واحد، وكل ما فعلوه أنهم قاموا بربط السوق، ورفض التجار البيع لنا بسعر ال 10 جنيه ". وضاعف من المشكلة التي واجهت حركة " مواطنون ضد الغلاء " للاستمرار في تجربتهم أن شركة مصر للطيران رفعت أسعار الشحن، ويقول: " كان الأولي بشركة مصر للطيران ألا تتعامل معنا بمنطق التاجر، خاصة أننا نعالج مشكلة قومية". ولم تكن مصر للطيران ورجال نظام مبارك هم فقط المسئولون عن إفشال التجربة، بل تتحمل الهيئة العامة للخدمات البيطرية بعضا من المسئولية، كما أشار العسقلاني. ويقول: " بعد ربط السوق السوداني الذي نفذه رجال مبارك فكرنا في السوق الكويلمبي، وخاطبنا الهيئة العامة للخدمات البيطرية باستيراد اللحوم من هناك، إلا أن الهيئة رفضت بحجة وجود مرض يصيب (الأحصنة) هناك قد ينتقل إلي المواشي المصرية. ورغم أن مصر تستورد من دول بها الكثير من الأوبئة مثل "أثيوبيا"، إلا أن الهيئة لم تقتنع بذلك وأصرت علي موقفها، الذي يفسره العسقلاني بأنه موقف لصالح بعض مستوردي اللحوم. والحل الذي يقترحه العسقلاني هو ضرورة تدخل د.عصام شرف شخصيا لحل الأزمة التي ستتفاقم في شهر رمضان، عبر مساهمة الحكومة في الاستيراد من الجمعيات التعاونية التي فقدت قيمتها بمصر ولم يعد لها دور حقيقي بعد أن انخفضت أعدادها من 14 ألف جمعية إلي 3 آلاف، كما يجب أن تتنوع مصادر الاستيراد وعدم قصرها علي مكان واحد فقط. الكرة في ملعب الحكومة الحل الذي أقترحه العسقلاني يقذف الكره في ملعب الحكومة، وبنفس الأسلوب تنصلت الجمعية الإعلامية لحماية المستهلك من مسئوليتها تجاه ما يفعله التجار في سوق اللحوم، بل -وأيضا- تجاه تنفيذ تجربة أهالي قرية محافظة الدقهلية. وقالت د.سعاد الديب رئيس الجمعية: " مش مع كل زيادة في الأسعار تقولون أين جمعيات حماية المستهلك .. أنا عايزة اللي يقول الكلام ده ، يقول معاه إيه الأدوات التي تملكها الجمعيات ولا تستخدمها ". وأوضحت الديب أن دور جمعيات حماية المستهلك في مصر يقوم علي التوعية فقط، وحملت المسئولية علي الحكومة التي ينبغي أن تتدخل علي الأقل بوضع تسعيرة استرشادية، حتي يعرف المستهلك وهو يشتري اللحوم أو أي سلعة هل هناك تجاوز من التاجر في السعر أم لا. وفي إطار دور التوعية الذي أشارت إليه الديب لم تستبعد أن تولي الجمعية اهتماما بتجربة قرية محافظة الدقهلية، لكنها قالت ان مضمون التجربة هو اختصار "الوسطاء" في سوق اللحوم، والجمعيات التعاونية التابعة للدولة يمكنها أن تقوم بهذا الدور.