منذ 51 عاماً، كان الدكتور أسامة الباز قطب الدبلوماسية اللامع يحاضرنا في كلية الدفاع الوطني عن السياسة الخارجية لمصر وصنع القرار في النظام المصري، وعقب المحاضرة سألته عما إذا كانت هناك ترتيبات ما معدة سلفاً في حالة غياب الرئيس مبارك عن الحكم، وكنت أقصد غيابه بالوفاة. في ذلك الوقت من عام 6991 لم تكن فكرة التوريث قد ظهرت، ولا مشروع وراثة الحكم قد جري تدشينه. وكان مبارك - للمفارقة - يرفض تعيين نائب لرئيس الجمهورية، بدعوي أن تعيين نائب للرئيس يعني »إعلام وراثة« بالحكم وأن فيه شبهة إملاء علي الشعب!! والغريب أن مبارك كان يتسامح - وقتها - في تلقي أي سؤال فيه انتقادات لسياسات حكومته، لكنه لم يكن يغفر للسائل لو استفسر عن عدم تعيين نائب للرئيس! وهناك وقائع، وأيضا ضحايا! وقيل ان هناك عرافاً حذره من أن تعيين نائب له، سيكون نذير شؤم عليه! وأذكر أن الدكتور الباز حاول بمكره السياسي المعروف، أن يراوغني في الاجابة، مستفيضا في شرح ما هو معلوم عن تولي رئيس مجلس الشعب - في حالة الغياب الدائم للرئيس - رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة لمدة 06 يوماً علي الأكثر، وعن قيام ثلث أعضاء مجلس الشعب علي الأقل خلال هذه المدة بترشيح اسم لهذا المنصب، واقرار المجلس لهذا الترشيح بأغلبية لا تقل عن ثلثي الأعضاء، ثم طرح اسم المرشح علي الشعب للاستفتاء عليه. وقلت يومها للدكتور الباز: كل هذا مفهوم ومنصوص عليه في الدستور لكن من الذي سيعطي لثلث أعضاء مجلس الشعب اسم المرشح، أليس هو المكتب السياسي للحزب الحاكم؟!.. ومن الذي سيشير علي المكتب السياسي بالشخصية المطلوب ترشيحها؟! صمت الباز قليلا ثم قال: تقصد القوات المسلحة؟! ودون أن ينتظر اجابة مني.. نظر إلي مضيفه اللواء محمد عبدالعزيز الشيخ مدير كلية الدفاع الوطني - رحمه الله - وقال له: هل لكم أطماع في السلطة يا سيادة اللواء؟! بسرعة رد اللواء الشيخ: أظن ان سيادتك تعرف الاجابة، وتستطيع أن تتأكد إذا وجهت السؤال إلي شقيقك (وكان شقيق الدكتور أسامة، ضابطاً كبيراً برتبة اللواء). وأضاف الشيخ قائلا: لو كانت لنا أطماع لظهرت في أحداث الأمن المركزي (ابريل 6891) عندما نزل الجيش إلي الشارع وجري الاعلان عن حظر التجوال لاستعادة الأمن.
مضت 51 سنة، علي ذلك الحوار. غاب مبارك عن الحكم لسبب آخر غير الوفاة. ترك السلطة مجبراً، تحت ضغط ثورة الشعب. لم يعين نائبا لرئيس الجمهورية، لكنه أعطي ولده الأصغر إعلام وراثة بحكم البلاد وهو علي قيد الحياة. وعندما عين مبارك النائب، كان القرار الذي اضطر له نذير شؤم عليه، فقد جرت تنحيته عن السلطة بعد القرار ثلاثة عشر يوما! نزل الجيش إلي الشارع وأعلن حظر التجوال مثلما حدث منذ ربع قرن في أحداث الأمن المركزي. تولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة مسئولية إدارة شئون البلاد بعد خروج مبارك من السلطة، لكنه لم يتول الحكم. اجاب المجلس عبر بياناته وتأكيدات أعضائه وأيضا من خلال مواقفه، عن السؤال الذي طرحه الدكتور أسامة الباز علي اللواء الشيخ: »هل لديكم أطماع في السلطة؟!«. قال المجلس ان مهمته المؤقتة في إدارة شئون البلاد، تنتهي بنهاية الفترة الانتقالية وتتوج بتسليم الحكم إلي سلطة مدنية منتخبة. قال انه ليس بديلاً عن الشرعية التي يرتضيها الشعب. وأعلن المجلس علي لسان أعضائه، انه يدير ولا يحكم وليست لديه أي نوايا للبقاء لحظة واحدة بعد انتهاء الفترة الانتقالية، وأكد بوضوح ان الرئيس القادم للبلاد سيكون مدنيا ولن يكون عسكرياً
يدرك العارفون يقينا بأن المجلس العسكري ليست لديه رغبة في الحكم، ولا أطماع في السلطة، ويعلمون أن اختصار الفترة الانتقالية إلي أقل مدة زمنية ممكنة هو أولوية أولي، لدي المجلس رئيسا ونائبا وأعضاء. والسبب لا يعود فقط إلي عزوف عن السلطة أو زهد فيها، وإنما يرجع في الأساس إلي رؤية واضحة لأين توجد المصلحة العليا للبلاد. المصلحة العليا تقتضي أن يتركز كل اهتمام القيادة العسكرية دون تشتيت علي المهمة الرئيسية الموكولة للقوات المسلحة وهي الدفاع عن أمن وسلامة أراضي الوطن وحماية حدوده وردع أي تهديدات محتملة في هذه المنطقة المضطربة التي نعيش فيها، لاسيما في هذا الوقت العصيب الذي تمر به والمنعطفات الخطرة التي تندفع إليها. المصلحة العليا تتطلب عدم الابطاء في بناء المؤسسات الدستورية وهياكل الحكم، أي انتخاب مجلسي البرلمان ورئيس الجمهورية مع اصدار دستور جديد يعلن للعالم هوية الدولة وطبيعة النظام في الجمهورية المصرية الثانية. فالاستثمار العربي والأجنبي المتوقف لن يعود إلي التدفق، دون استقرار سياسي يتحقق بتسليم السلطة البرلمانية والرئيس الجديد الحكم بعد انتخابات ديمقراطية نزيهة. والمساعدات الخارجية - حتي من الدول العربية الشقيقة - لن تكون ملموسة ولا فعالة إلا بعد اكتمال اركان النظام السياسي الجديد في البلاد. والسياحة لن تستعيد معدلاتها فقط بمجرد السيطرة علي الأوضاع الأمنية، فالاستقرار السياسي عنصر هام من عناصر جذب السائحين. أضف إلي ذلك أن اتخاذ قرارات استراتيجية في شأن الملفات الرئيسية في علاقاتنا الدولية وبالأخص الملف العربي وملف دول حوض النيل، هو اختصاص أصيل للحكومة المنتخبة والرئيس القادم.
ولعلي ألتمس العذر لحسني النية الذين يطالبون بتمديد الفترة الانتقالية لمدة عام قادم أو عامين مقبلين، ثقة منهم في أن الجيش بلا أطماع في السلطة، ورغبة في تأسيس البناء الدستوري واقامة المؤسسات المنتخبة علي مهل وتأن وروية، لكن من أدراهم بما قد تخبئه المقادير من مفاجآت في العام أو العامين المقبلين؟! لكني لا أجد أي مبرر لمن يسعون حثيثا إلي توسيع المدة الزمنية للمرحلة الانتقالية ويصرون علي مطالبهم التي تؤدي حتماً إلي تمديد بقاء الجيش لفترة تزيد علي 21 شهراً، سوي الحرص علي تحقيق مصالح حزبية ضيقة علي حساب مصالح عليا للبلاد، أو الرغبة في مداهنة المجلس العسكري والتزلف إلي أعضائه، علي حساب المصلحة الأكيدة للقوات المسلحة.
الآن.. يدور جدل ساخن بين القوي السياسية حول أولوية البدء بوضع الدستور قبل الانتخابات البرلمانية، أو اجراء الانتخابات أولا كما نصت التعديلات الدستورية واستقرت عليه مواد الإعلان الدستوري. أنصار الدستور أولاً، يتخوفون من استحواذ تيار بعينه علي مهمة وضع الدستور الجديد، ظناً منهم أن جماعة الاخوان وحزبها والقوي الاسلامية المتحالفة معها، سوف يفوزون بنصيب كبير من مقاعد مجلسي البرلمان لو جرت الانتخابات في سبتمبر المقبل، ومن ثم ستكون لهم الكلمة العليا في اختيار الشخصيات المائة أعضاء الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع مشروع الدستور. وفي هذه الحالة ربما تصاغ المواد المتعلقة بهوية الدولة والنظام السياسي علي نحو يفتئت علي ارادة جماهير الثورة التي كانت تطالب بمصر دولة مدنية ديمقراطية. وإذا قيل لانصار الدستور أولاً إن التعديلات الدستورية التي أقرها الشعب في الاستفتاء بغالبية 77٪، تقضي باجراء الانتخابات البرلمانية قبل وضع الدستور، ردوا بأن التعديلات ليست تنزيلاً من السماء! بل ان بعضهم يدفع دفعاً نحو تنظيم مليونية يوم الجمعة 8 يوليو تحت شعار »الدستور أولاً، ويحذر من تحويل المليونية إلي اعتصام لا ينفض إلا بالاستجابة لمطلبهم، وهو أمر تكتنفه مخاطر أن يحتشد أصحاب الرأي الآخر في مليونية مضادة، ومن ثم تتفرق القوي الثورية بسبب خلافات السياسة، في وقت نحتاج إلي تكاتفها معاً للعبور بالثورة في أمان إلي ضفاف الاستقرار السياسي. أما أنصار الانتخابات البرلمانية أولاً، فمنطق بعضهم أن الشعب اختار اجراء الانتخابات قبل وضع الدستور، وانه لابد من احترام ارادة الأغلبية، خاصة أن هذا هو أول محك ديمقراطي حقيقي بعد ثورة يناير علي أن البعض الآخر يظن أن اجراء الانتخابات في أسرع وقت يسمح به الإعلان الدستوري هو فرصة سانحة لهم لضرب عصفورين بحجر.. أولهما اقتناص أكبر عدد ممكن من مقاعد البرلمان في ظل ارتباك القوي السياسية الأخري، وثانيهما الاستئثار باختيار أعضاء اللجنة التأسيسية علي نحو يحقق لهم الإتيان بدستور يعبر عن إرادة تيار، لا عن توافق شعب. إنها بلا شك معضلة. لكن هل من الصعب علي القوي التي حققت ثورة كانت مستحيلة، أن تحل معضلة سياسية مهما بلغت صعوبتها؟! لا أظن.
في رأيي المتواضع أن التعديلات الدستورية وما تبعها من إعلان دستوري ليست طبعا من تنزيلات السماء، لكنها بالقطع نابعة من ارادة الشعب. وما دمنا لا نتحدث عن شعائر وعبادات دينية، وإنما عن عملية سياسية، فلابد إذن من احترام رأي الأغلبية. لذا لا يحق للاقلية الذين عارضوا التعديلات الدستورية - وأنا واحد منهم - أن يطلبوا اجراء استفتاء جديد علي الاستفتاء وإلا دخلنا بالعملية الديمقراطية إلي حلقة مفرغة لا تفضي إلي نتيجة ولا فكاك منها في المستقبل. الحل في ظني يبدأ من احترام الجدول الزمني للإعلان الدستوري الذي ينص علي البدء في اجراءات الانتخابات البرلمانية في الموعد المحدد قبل يوم 03 سبتمبر المقبل. أي فتح باب الترشيح لمجلسي البرلمان قبل حلول هذا الموعد. علي أن يراعي اتخاذ الخطوات المقترحة التالية لتبديد مخاوف أنصار الدستور أولاً، ومجابهة الرغبات الاستحواذية والاقصائية لبعض الذين يحاججون بنصوص التعديلات الدستورية. النص في بنود مشروعي قانوني انتخابات مجلسي الشعب والشوري ومشروع قانون الدوائر الانتخابية، قبل اصدارها بمراسيم في نهاية هذا الشهر، علي جدول زمني مناسب يسمح للأحزاب الجديدة وقوي الشباب الثوري المستقلة أو الراغبة في تأسيس أحزاب، بالتواصل مع الجماهير في دوائرها قبل اجراء الانتخابات. بمعني أن يتم فتح باب الترشيح التزاما بما نص عليه الإعلان الدستوري قبل نهاية سبتمبر المقبل، علي أن تطرح اسماء المرشحين للطعون في فترة زمنية مناسبة، ويتم الانتظار لحين قيام محاكم القضاء الإداري بالبت في هذه الطعون تلافياً لأي بطلان، قبل إعلان القوائم النهائية لاسماء المرشحين في القوائم الحزبية وعلي المقعد الفردي، مع اجراء الانتخابات علي 3 مراحل، كل منها يضم مجموعة من المحافظات علي نحو ما جري في انتخابات 5002 لضمان الاشراف القضائي الفعال علي كل صندوق. وبذلك يمكن أن ننتهي من اجراء الانتخابات في موعد أقصاه الاسبوع الأخير من نوفمبر المقبل. علي أنه يجب عدم المغالاة في ترجيح نسبة مقاعد القوائم علي نسبة المقاعد بالنظام الفردي، أي الاقتصار علي تخصيص نسبة الثلث المقترحة لنظام القوائم، أو المناصفة بينها وبين المخصص للنظام الفردي، تجنبا للطعن بعدم الدستورية كما حدث في عام 0991، عندما قضت المحكمة الدستورية ببطلان انتخابات عام 7891 بسبب افتئاتها علي المقاعد الفردية لحساب المقاعد المخصصة للقوائم. وأظن انه سيتم عرض مشروعي قانوني مجلس الشعب ومجلس الشوري علي المحكمة الدستورية العليا للنظر فيهما قبل اصدار كل منهما بمرسوم. تركيز مؤتمر الوفاق القومي علي المهمة الاصلية المكلف بها وهي وضع مسودة لمشروع الدستور الجديد، بحيث تكون أساساً متفقاً عليه يعرض علي الجمعية التأسيسية، لا مجرد ورقة استرشادية يمكن اهمالها أو غض النظر عنها، وطرح المسودة للنقاش علي أوسع نطاق مجتمعي. إصدار مرسوم بقانون من جانب المجلس العسكري يتضمن المواد فوق الدستورية التي لا يجوز تغييرها أو المساس بها كالمواد الخاصة بهوية الدولة كدولة مدنية ديمقراطية، وبنظامها السياسي (رئاسي برلماني)، وبمصادر التشريع الرئيسية، مع الاحتفاظ بالمادة الثانية، ومراعاة حقوق الأقباط في سريان الشرائع المسيحية عليهم. إصدار مرسوم بقانون يحدد أسس اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية، بحيث يمثلون طوائف الشعب وفئاته وتياراته السياسية، حتي لا يترك الأمر لغالبية برلمانية في الاختيار حسبما تهوي، في أمر جلل يتطلب التوافق القائم ولا يستند فقط إلي الأغلبية. الإسراع بإصدار قانون الانتخابات الرئاسية، بحيث تجري الانتخابات في موعد أقصاه شهران من إعلان نتيجة الانتخابات البرلمانية، حتي لو لم تكن الجمعية التأسيسية قد أكملت مهمتها بوضع مشروع الدستور. وبذلك يمكن أن يؤدي الرئيس الجديد اليمين الدستورية في العيد الأول للثورة يوم 52 يناير أو يوم 11 فبراير 2102، في ذكري تنحية الرئيس السابق، لتنتهي الفترة الانتقالية بعد 21 شهرا بالضبط من بدئها.
أزعم أن الشعب المصري علي يقين من أن قواته المسلحة ليست لها أغراض، إلا حماية المصالح العليا لهذا الوطن العزيز، وأن مجلسها الأعلي ليست له طموحات سوي العبور الآمن بهذا الوطن من المرحلة الانتقالية، إلي استقرار سياسي تتولي شئونه سلطة تشريعية منتخبة، ورئيس مدني يختاره الشعب بإرادته الحرة. غير أن القوات المسلحة بعد انتهاء الفترة الانتقالية، لابد لها أن تتحمل دستورياً مهمة جديدة بجانب حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، وهي مهمة حماية الدولة المدنية وأهداف ثورة 52 يناير.