المطالع للأدبيات الإسرائيلية الحديثة ومنشورات الصحف العبرية سيلمس بقليل من التدقيق والملاحظة أن ثمة تغييراً طفيفاً قد لا يلفت انتباه الكثيرين في صياغة تسمية »القدس». يستفيد هذا المتغير الجديد بفروق الترجمة المرتبطة بسياق النحو والصرف الخاص بكل لغة، ويتم توظيف هذه الفروق لخدمة الأهداف الصهيونية بالاستيلاء علي المدينة المقدسة كلها ولتغييب الحالة الذهنية الشائعة المرتبطة بحقوق الفلسطينيين فيها. لينشأ السؤال المربك عن أي قدس نتحدث وعن أي قدس يتحدثون؟. لقد جربنا التلاعب اللغوي الإسرائيلي في تفسير قرار مجلس الأمن 242 القاضي بانسحاب إسرائيل من »الأراضي» التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967 حين روجت دولة الاحتلال لتعبير »أراض» بصيغة النكرة استغلالا لبناء اللغة الفرنسية الذي يدمج أداة التعريف مع حروف الجر في حالة الجمع لغرض في نفسها وهو تمييع فكرة الحدود الفاصلة بين الأراضي المزمع إقامة الدولة الفلسطينية عليها بحيث يدور الحديث عن »بعض» تلك الأراضي ويصبح التفاوض عليها مرهوناً بالتفسير الخاص لكل طرف. الأمر نفسه يحدث الآن، فمنذ أشهر قليلة قد لا تزيد عن السنة أصبحت الصحف الإسرائيلية تعمد لاستخدام تعبير »شرق القدس» بدلاً من تعبير »القدسالشرقية» الذي يستخدمه العالم كله في الإشارة إلي الشطر المزمع ضمه للدولة الفلسطينية المرتقبة ليصبح عاصمة لها، في تحايل مفضوح علي الإنكار الدولي لاحتلال إسرائيل لكامل المدينة ولمزاعمها بحق تاريخي لليهود فيها. الفارق كبير بين تعبير »القدسالشرقية» الذي يقسم المدينة إلي شطرين محددين بحدود ما قبل 1967 وبين تعبير »شرق القدس» الذي يشير إلي المناطق الواقعة علي الأطراف الشرقية للمدينة وتعمل دولة الاحتلال علي منحها فقط للفلسطينيين في حالة الاضطرار للرضوخ لضغوط المجتمع الدولي. هذا التحايل يستفيد بشيوع استخدام تعبير West Bank للإشارة للضفة الغربية، ومن ثم يصبح من الطبيعي استخدام تعبير East Jerusalem للإشارة إلي القدسالشرقية وتعبير West Jerusalem للإشارة إلي القدسالغربية وهو الاستخدام الأصوب في اللغة الإنجليزية لإطلاقه علي أسماء الأماكن لكن ما يحدث هو تسلل صيغة »eastern» عند الإشارة إلي القدسالشرقية. لتصبح الترجمة التي ينشدها الإسرائيليون بإضافة »أداة الصفة» للدلالة علي منطقة جغرافية لا اسم مكان. متغير جديد بدأ يأخذ طريقه للكتابات الإسرائيلية وهو استخدام لفظة »القدس» العربية بحروف عبرية أو إنجليزية للتعبير عن المناطق التي يطالب بها الفلسطينيون والعرب تنفيذا لقرارات الأممالمتحدة، في مقابل لفظة »أورشليم» للتعبير عن مدينة القدس بأكملها والتي يزعمون أنها لفظة توراتية. ربما ارتبط توقيت تسلل هذه المتغيرات بالتمهيد لقرار الرئيس الأمريكي ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وفرض واقع جغرافي ذهني جديد علي الأرض. الغريب أن صهاينة الحاضر يرددون بكل تبجح أن »لا صهيونية بدون القدس» مع أن الصلة بين الشعب اليهودي الديني والقدس لم تلعب قط دوراً مركزياً في المفهوم القومي للصهيونية السياسية الحديثة، ولا في مفاهيم الآباء المؤسسين للصهيونية من أمثال تيودور هرتسل وزئيف جابوتنسكي اللذين تخليا ببساطة متناهية في كتاباتهما عن السيادة اليهودية في قلب القدس التاريخية. فالأهداف المعلنة للحركة الصهيونية، التي انعكست بوضوح في كتاب ثيودور هرتسل »الدولة اليهودية» وروايته »ألتنيولاند» ( أرض قديمة جديدة)، التي اعتبرها المثقفون والسياسيون تبشيرا بالصهيونية لتأسيسه لفكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين، هذه الكتابات لم تثر أبدا فكرة السيطرة اليهودية علي المناطق المشتركة بين الأديان المتعددة التي كانت غالبا مراكز للتوتر في البلدة القديمة في القدس. كذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن هرتسل لم يحدد في روايته »ألتنيولاند»، مكان المعبد علي جبل الهيكل. ومن ثم أعطي تعبيرا رمزيا بارزا عن ميل الصهيونية السياسية إلي الإبقاء علي ابتعادها عن المدينة القديمة والمناطق المحيطة بها، فضلا عن التعبير عن اللامبالاة السياسية تجاهها، وهي اللامبالاة نفسها التي كانت واضحة أيضا في دستور جابوتينسكي التنقيحي الذي اتخذ فيما بعد نواة لمشروع إعداد دستور للدولة »اليهودية». التغييرات التي تتسلل ببطء لا تحتمل سذاجة التأويل ولا حسن النوايا وتحتاج إلي جدية في التعامل معها.