علي مدار خمس سنوات هزت أمريكا ثلاث حوادث اغتيال بدأت عام 1963باغتيال الرئيس جون كينيدي الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدةالأمريكية وسط موكبه بمدينة دالاس.وبعده بعامين كان اغتيال الزعيم الأسود الشهير مالكوم اكس عام 1965، ليعقبه عام 1968اغتيال الزعيم التاريخي لحركة الحقوق المدنية وداعية حقوق الإنسان مارتن لوثر كنج. وهنا كانت الاستجابة الفورية من الحكومة المركزية الأمريكية لبحث حوادث العنف التي وصلت إلي الاغتيالات لرموز أمريكا، وفي نفس العام 1968 كان تشكيل لجنة أمريكية لبحث أسباب العنف والوقاية منه وعلاقة التليفزيون بذلك مع شيوع الأعمال الدرامية العنيفة وأفلام الكاوبوي وأفلام الإثارة المليئة بالجريمة والدم.وقاد عالم الاجتماع جورج جيربنر مجموعة من الباحثين وتوصل في النهاية إلي أن تكرار تعرض المشاهدين بكثافة لمشاهد ورسائل ومضامين إعلامية مختلفة عن الواقع الاجتماعي من خلال وسائل الإعلام عامة والتليفزيون خاصة يؤدي في النهاية إلي إدراك الجمهور لهذا الواقع المحرف علي أنه الواقع الحقيقي، مما يكسبه نوعا من الشرعية التي تؤثر علي سلوك الجمهور.وهو ما تعارف عليه علماء الاجتماع بنظرية "الغرس الثقافي"ويتخذ منها الباحثون الأكاديميون وسيلة قياس بين العينات البشرية التي يجرون عليها أبحاثهم. وبدءا من قنوات الأطفال وصولا إلي قنوات الأخبار وما بينهما قنوات الترفيه البريء وغير البريء والدراما والأفلام والمنوعات والتجارة في المسموح والممنوع والتواصل الاجتماعي بين راغبي الوصال من الجنسين للصداقة ولغيرها وقنوات الرياضة والقنوات المحسوبة علي الدين....إلخ؛ كل تلك القنوات إضافة للإصدارات الصحفية الخاصة والمستقلة والحزبية إذا أخضعناها لتلك النظرية بما فعلت بالشعب المصري خلال السنوات العشر السابقة علي الأقل، لاكتشفنا أننا خضعنا جميعا لعملية غرس ثقافي مؤذية تلاقحت فيها عوامل السياسة هنا وهناك مع رأس المال الفاسد لغرس مفاهيم غريبة علينا واقتلاع أخري تربينا عليها والتضخيم في السفاسف والتهوين من القضايا الخطيرة وصرف النظر عما يتهددنا فعلا وتحويله إلي ما يلهينا. تلك المهمة غير المقدسة تتولاها القنوات الفضائية التي بدأت في مصر ديسمبر 2001؛ وحتي عام 2010 بلغ عدد الشركات المشهرة المرخص لها ببث قنوات فضائية 40 شركة قامت ببث 59 قناة المفترض فيها أنها خاضعة لضوابط المنطقة الإعلامية الحرة للأنشطة التي يمكن ممارستها داخل المنطقة.أهمها عدم السماح بالترخيص بالعمل بالمنطقة الحرة لقنوات ذات صبغة دينية أو طائفية أوحزبية أو تحض علي الجنس والعنف، وأن تلتزم الشركات التي يرخص لها بالعمل بالمنطقة بميثاق العمل الإعلامي. فهل التزمت تلك القنوات بهذه الضوابط المنظمة لعملها؟ الإجابة دون شك بالنفي خاصة ما يتصل بالجانب الديني والطابع الجنسي لبعض تلك القنوات في إعلاناتها أو برامج بعضها وأفكارها، أما الطائفية والحزبية وبروز الصبغة الدينية فاتخذت تمام ظهورها عقب ثورة 25 يناير ونزل المال السياسي إلي ميدان الإعلام بثقله محاولا السيطرة حسب توجهه علي الرأي العام. وما بين يناير 2011 إلي مايو من نفس العام تم إشهار 16 شركة جديدة تبث 22 قناة فضائية جديدة فضلا عما خرج من قنوات جديدة من عباءة قنوات قديمة خلعت كلها برقع المواراة وأسفرت عن توجهاتها كاملة. وخضع الشعب المصري والعربي من خلال القنوات الأعلي صوتا ووصولا إلي عملية غرس ثقافي كاملة الأركان مع سبق الإصرار وتمام التشتت مابين الفلول والثوريين والعهد الجديد والراقدين تحت التراب والقادمين من فضاء الأمنيات والذاهبين بآمال الشعب في الحرية والعيش والعدالة الاجتماعية، حتي إذا نال من نال مأربه وخاب من خاب مسعاه تبدلت الخطابات الإعلامية وأسفرت الوجوه عن أقنعتها الخداعية أدركنا أننا خضعنا لأكبر عملية غرس تخريبية تحريفا عن نظرية الغرس الثقافي الأمريكية التي خضع لها الشعب الأمريكي خلال الستينيات وأنتجت أصعب فترة عنف هناك أخضعوها للدراسة وطبقها علينا فضاؤنا وقنواتنا الموجهة واستجابت لها أميتنا وغياب وعينا..فهل نفيق؟