رغم تعدد وجهات النظر، واختلاف الآراء، وتنوع الرؤي المعلنة علي الساحة السياسية والاجتماعية في مصر الان،...، ومع الاحترام الواجب لكل صاحب رأي وصاحب قلم، انطلاقا من المبدأ الذي نأمل أن يسود بيننا جميعا، والذي يؤكد لكل صاحب رأي ان رأيه صواب يحتمل الخطأ، وأن رأي المخالفين له خطأ يحتمل الصواب، فإننا نقول إن السمة الغالبة علي أداء الحكومة المؤقتة ورئيسها الدكتور شرف بالذات، هو اعلاء كلمة جموع الناس في كل قرار، وفوق كل تصرف. وأقول إن تلك صفة محمودة في غالب الأحيان، إن لم تكن في مجملها، بل هو واجب الحكومة انطلاقا من مسئوليتها في الاستجابة للناس وتلبية احتياجاتهم وتحقيق مصالحهم، في اطار الامكانات المتاحة وبما لا يضر بمصالح واحتياجات عموم المواطنين وجموع الناس من أبناء الوطن وبما لا يتعارض مع القانون، أو يمس هيبة الدولة، مثلما حدث في واقعة قنا وما شابها من مظاهر غضب وموجات انفعال من أهلنا هناك. ودون الخوض في تفاصيل كثيرة نعرضها وتابعناها جميعا، اقول بكل الصدق والإخلاص، ان الحكومة قد تحلت بالصبر وضبط النفس طوال عشرة أيام عجاف، تجاه ما جري في قنا، رغم ما كان باديا ومعلنا من خروج الانفعال الغاضب لاهلنا هناك عن نطاق السيطرة والاحتمال،...، وهذا يحسب للحكومة وليس عليها، لان الصبر علي انفعالات الجماهير واجب كما قلنا، ولأن ضبط النفس ضرورة في ظل الظروف بالغة الدقة والحساسية، التي يمر بها الوطن الآن، وفي ظل هبة الانفعال والاندفاع الجماهيري السائدة في كل مكان، تطالب بما تراه مشروعا وصحيحا. ولكن، وباختصار، لابد للحكومة من البحث عن صيغة صحيحة للتعامل مع هبة الاندفاع الجماهيري ومطالبتهم بما يرونه صحيحا ومشروعا، ورفضهم لما يرونه لا يحقق مصالحهم، دون المساس بهيبة الدولة، التي يجب الحفاظ عليها في كل الظروف، وجميع الأوقات.
وإذا ما تركنا ما جري وما وقع في قنا، بعد ان قلنا فيه ما نراه واجبا، ندخل بالحديث الان إلي ما أحب الخوض فيه والدخول إليه، وهو بوابة الأمل الذي تلوح آفاقه علي مقربة ليست بعيدة ولا مستحيلة، خاصة ان هناك فعلا وحقا مؤشرات، ودلائل، بل مواقف وافعال تفتح بابا واسعا للأمل في غد أفضل، ومستقبل أكثر إشراقا أمام كل الناس في مصرنا الحبيبة، والشباب بالذات بوصفهم هم صناع الغد وأصحاب المستقبل. وفي هذا السياق لابد ان نسجل بكل الوضوح ودون تردد أن السمة الغالبة والظاهرة من خلال كل الافعال وجميع القرارات للمجلس الأعلي للقوات المسلحة، الذي يتولي مسئولية إدارة البلاد الان، ومنذ الحادي عشر من فبراير، هي التجرد الكامل والموضوعية الشديدة، والعزوف عن الاحتفاظ بالسلطة السياسية بين يديه. بل لقد أضحي مؤكدا لكل ذي عقل رشيد، ان هذا المجلس لا يرغب ولا يريد ممارسة مهام الحكم بل ان لديه رغبة مؤكدة في التخلص من إدارة شئون الدولة في أقرب وقت ممكن، وانه ينتظر اليوم الذي يقوم فيه بالتسليم الآمن للسلطة إلي صاحبها المستحق فور اجراء الانتخابات الرئاسية، بل لعله أيضا يتعجل هذا اليوم. وفي هذا الخصوص احسب ان هناك اتفاقا شاملا في الرؤية لدي جموع المواطنين في مصر، علي أن تلك حقيقة مؤكدة للجميع، لا يدخلها أي لبس أو غموض، ولا تشوبها شائبة علي الاطلاق،...، وذلك أصبح ظاهرا وواضحا للقاصي والداني، من خلال كل تصرف، وكل قرار اتخذه المجلس الأعلي، أو صدر عنه، منذ لحظة توليه عبء المسئولية الجسيمة وحتي الان،...، بل ومن قبل ذلك كان واضحا وجليا في كل مواقفه انه درع الحماية الرئيسي للثورة والثوار منذ لحظة اشتعالها الأولي، وهو ما أتاح الوقت لجموع الشعب للالتفاف حولها وتبني جميع مبادئها وأفكارها.
وفي هذا الاطار، وبمراجعة جميع الأحداث والوقائع التي طرأت علي مصر منذ الخامس والعشرين من يناير وحتي الان، علي كثرتها وتزاحمها وتسارعها، نجد أن الثابت تجاهها جميعا رغم كثرة المتغيرات وتوالي التطورات وتلاحقها هو ان المجلس الأعلي للقوات المسلحة ليس راغبا في الحكم بل زاهد فيه وان تلك أصبحت عقيدة ثابتة لديه ليس واردا أن يتخلي عنها. اما من ناحية الصبر والحكمة فهذا واضح وجلي في اسلوب ادارته لأمور البلاد بأقصي قدر من رحابة الصدر تجاه موجات الغضب وعواصف الانفعال التي طفحت علي السطح بطول البلاد وعرضها كرد فعل طبيعي وتعبير تلقائي من جانب جميع الفئات التي ترسخ لديها احساس كبير بالتهميش أو الظلم أو القهر الاجتماعي أو المادي أو المعنوي طوال السنوات الماضية، ووجدت الفرصة المواتية والسانحة للافصاح عن مكنون ذاتها والاعلان عن رغبتها المستحقة في الحصول علي حقوقها المهدرة أو المهمشة. وفي كل هذه الموجات، وتلك العواصف، كان التعامل هادئا دون ضعف، وكان التصرف حكيما دون تراخ رغم ما شاب الكثير منها من صخب وتوتر، في كل الاحيان، ورغم ما واكبها من سخونة والتهاب، بل وتفجر في غالب الاحيان،...، وقد أدي ذلك الي نزع فتيل أزمات كثيرة وجنب الوطن مخاطر عديدة، في ظل ظروف بالغة الدقة والحساسية منها علي سبيل المثال وليس الحصر المحاولات المتكررة من البعض بسوء القصد وفساد الطوية لاثارة الفتنة الطائفية واشعال فتيلها في وقت يحتاج الوطن فيه إلي وحدة جميع أبنائه، وتماسك وقوة نسيجه الاجتماعي.
ويأتي قبل ذلك وبعده تلك السمة الغالبة علي اداء المجلس الأعلي والتي أصبحت مميزة ودامغة لكل تصرفاته وقراراته، وهي الاصرار الشديد والواضح علي إعلاء القانون في جميع الأمور وكل القضايا، ورفض الانزلاق إلي القرارات الاستثنائية تحت أي ذريعة من الذرائع ولأي سبب من الاسباب، وعدم الاذعان لضغط مهما كان للتخلي عن قانونية الفعل ورد الفعل والحرص دائما وابدا علي ان يكون القانون هو صاحب الكلمة الفاصلة في تقرير مصير الأفراد والقضايا. ولعلنا تابعنا ورصدنا مع عموم الناس وخاصتهم ذلك الزخم الهائل من الأصوات والآراء الهادفة والمطالبة بالدفع في اتجاه الأخذ بمبدأ الاستثناء في أمور كثيرة وقضايا عديدة،...، والكثير من هذه الأصوات وتلك المطالب تمت في اطار الرغبة المتعجلة من بعض المواطنين في التخلص من جميع رموز وأسس وكيانات النظام السابق، والتي تعبر تعبيرا مباشرا عما كان سائدا قبل الثورة من سياسات وممارسات ومنهاج عمل وسلوك قامت الثورة للاطاحة بها، واستبدالها بما يحقق للثورة أهدافها في الديمقراطية الصحيحة والحرية الكاملة والعدالة الاجتماعية والقضاء علي الفساد ومحاربة الفقر. وأحسب اننا قد لفت انتباهنا جميعا، الحرص الشديد من جانب المجلس الأعلي للقوات المسلحة علي البعد عن جميع الاجراءات الاستثنائية في هذا الشأن، وإحالة الأمر لجميع الجهات المختصة والمخولة قانونا للتعامل الجاد والعاجل مع هذه الأمور وتلك القضايا، سواء في ذلك ما يخص النائب العام وجهات التحقيق التابعة له، أو القضاء العادل بدرجاته المختلفة،...، وتلك حكمة واعية يجب ألا تغيب عن أحد، لأنها في الحقيقة والواقع تعلن بوضوح عن بداية ترسيخ دولة القانون في مصر.
وفي إطار ذلك المنهج الواضح في تأصيل دولة القانون وترسيخ مفهومها سلوكا وفعلا، كان البعد كلية عن الأخذ بمبدأ الاجراءات الاستثنائية حتي ولو كانت تحت اغراء الاستجابة للتبرير الذي نادي به الكثيرون بضرورة الأخذ في ذلك بمبدأ الشرعية الثورية التي اسقطت الدستور. وفي ظل هذا الالتزام الواضح رأينا وتابعنا اتخاذ جميع الاجراءات القانونية المتخذة حاليا من قبل النائب العام وأجهزة النيابة العامة، والكسب غير المشروع، والاموال العامة، للمساءلة، والتحقيق مع كل رموز النظام السابق، ابتداء من رأس النظام وأبنائه وحتي رئيس الحكومة والوزراء السابقين، مرورا علي رئيسي مجلسي الشعب والشوري وكذلك أيضا بعض رجال الأعمال القريبين منهم والمتورطين معهم في اتهامات معلومة ومحددة باستغلال النفوذ والاثراء غير المشروع، والخروج عن القانون. وفي هذا الاطار الملتزم والواضح ايضا رأينا وتابعنا القانون وهو يأخذ مجراه، ويسلك طريقه في قضية المطالبة بحل الحزب الوطني، التي نادي بها الكثيرون، باعتبارها استحقاقا واجبا ومشروعا لا يمكن تأجيله، أو اغفاله، جزاء وفاقا لما كان منه، وما أدي إليه من إفساد للحياة السياسية قبل الثورة،...، وفي ذلك كنا جميعا شهودا علي غيبة الاستثناء، ورأينا كيف ان ترك الأمر برمته إلي قضاء مصر العادل، الذي أصدر حكما تاريخيا بحل الحزب استنادا إلي عوار شديد في منهجه وسلوك كوادره، وممارسات قياداته طوال السنوات الماضية،...، وهو ما جاء ايضا كرسالة واضحة للكافة، في اطار ترسيخ مفهوم ومبدأ دولة القانون في مصر.
ويتسق مع ذلك، ويتواكب معه في ذات الوقت، اسلوب ومنهج التعامل في مسألة مكان التحقيق مع رئيس الجمهورية السابق، المحبوس احتياطيا الان، وما إذا كان سيظل في مستشفي شرم الشيخ نظرا لظروفه الصحية بالغة الحساسية أو ينقل إلي سجن طرة. وقد تابعنا جميعا كيف تم التعامل في هذه المسألة بكل الشفافية اللازمة والواجبة، ولم يتخذ فيها المجلس العسكري امرا أو قرارا استثنائيا، بل تركت بكاملها لقرار النائب العام، وفي إطار القانون، ودون ادني استثناء أو تمييز،...، وفي هذه الحالة رأينا النائب العام يصدر قرارا بندب كبير الأطباء الشرعيين، ومن يري الاستعانة بهم من المتخصصين للانتقال إلي سجن ليمان طرة، لمعاينة المستشفي الخاص بالسجن وبيان مدي صلاحيته لنقل الرئيس السابق، والمحبوس احتياطيا إليه، مع تكليف كبير الأطباء الشرعيين للانتقال إلي مستشفي شرم الشيخ العام لتوقيع الكشف الطبي علي الرئيس السابق لبيان حالته الصحية، ومدي امكانية نقله إلي سجن طره، أو مستشفي السجن، تنفيذا لأمر الحبس الصادر ضده. وبناء علي هذا التكليف وفي إطار الشفافية والعلنية المطلقة في هذا الخصوص تلقي النائب تأكيدا من الطب الشرعي وخطابا من وزير الداخلية يؤكدان فيهما تعذر نقل الرئيس السابق من الناحيتين الطبية والأمنية الي سجن طرة، وان الأفضل هو نقله من شرم الشيخ فور استقرار حالته الي احد المستشفيات العسكرية الذي يتوافر به الامكانيات الطبية اللازمة للتعامل مع حالته المرضية، وايضا تتوافر به الامكانيات الامنية اللازمة لضمان تأمينه. ومرة أخري وليست أخيرة يأتي التعامل في هذه المسألة في إطار التأكيد الواضح علي ترسيخ وتأصيل مفهوم ومنهج دولة القانون، والبعد عن كل ما يمت بصلة للاستثناء، والقرارات الاستثنائية.
هذه هي تباشير الأمل في أن الغد سيكون أفضل وأن مصر ستصبح بالفعل دولة القانون في ظل المساواة الكاملة بين الجميع دون استثناء لأحد في ظل حرية حقيقية وديمقراطية كاملة.