العجيب بعد وصول الكهرباء وشراء ميكروفون للمسجد تسابق المؤذنون وانتحي الشيخ خليل أب جلال جانبا يرصد هذا التسابق المحموم علي الميكروفون القاسم المشترك بين حادثتي مانشستر والمنيا هو أن مرتكبيها تدرّبوا في ليبيا، ولم تكن مصر معتدية يوما ما علي مر التاريخ علي جيرانها، لكن أن يصل هذا التسامح المصري وحُسن الجوار إلي الاعتداء علي مصريين يستقلون حافلة لقضاء نزهة ومعظمهم أطفال، ويُفرغ خوارج العصر رصاصات في أجساد هؤلاء الأبرياء فرحين بمنظر الدماء والأطفال ينظرون إلي قاتليهم الذين تحجّرت قلوبهم بل أشد من الحجارة قسوة، أفرغوا رصاصاتهم التي أُهديت لهم من أعداء نعرفهم، وهذا ما فعله الليبي في مانشستر.. ليبيا بها مساحات شاسعة وخيرات وفيرة وأهلها لهم منا كل احترام ومودة، لكن أن تتحول إلي نقطة تجمّع خوارج هذا العصر لهدم مصر فهذا شيء لن يقبله مصري وإن لم يقم الليبيون أنفسهم بطرد هؤلاء بعيداً عن الأراضي الليبية فحدود مصر ستظل آمنة وانتظروا الغضب المصري. أذان الشيخ خليل أَبْ جلال رمضان في قريتي » العُويْضات » بمركز قفط محافظة قنا له طقوس مختلفة، عندما كنا صغاراً لم تكن الكهرباء قد وصلت إلي قريتنا كانت بيوتنا شِبه مكيَّفة لأن الجدار قد يصل سُمكه إلي متر والأسقف عالية تصل إلي ثلاثة أمتار، مع طاقة أعلي الشبايبك المرتفعة للهواء والنور وللشكل الجمالي أيضًا، ما نفتقره في العمارة الحديثة اللمسة الجمالية، إراحة العين، فالعين تسمع وتحسّ وتري، تحوّلت العمارات بل الأبنية الرسمية إلي نموذج تكراري في كل المحافظات، وكأنه مفروض دون أن يراعي المصمم خصوصية المكان والبيئة والغرض، معظم أبنية الجامعات إلا القديم منها نموذج مكرر يخلو من الجمال إلا قليلا نادراً. كان بيتنا يقع في وسط القرية، وقد حرص أجدادنا علي بناء بيوتهم بعيداً عن الشارع الرئيسي بالقرية حتي لا يري الجَمّالة نساء العائلة عند مرورهم بجمالهم، وهذا سرٌّ لم أعرفه إلا مؤخرا. قُبيل المغرب يتجمع أطفال القرية دون اتفاق تحت مئذنة الجامع العتيق بالقرية، المئذنة قديمة عالية، كلُّ البيوت حولها أقل ارتفاعاً منها وهذا ما جعل الناس في القري يُفضلون أن يكون المؤذن مكفوف البصر حتي لا يري من علِ بناتَ الناس، لكن الشيخ خليل كان يغمض عينيْه وكأنه أعمي بينما يطوف حول المئذنة في أثناء الأذان. لم يكن يخاف العقارب والأفاعي لأنه يرقي السموم في مهارة فائقة وهو يتلو قَسَم الإمام الرفاعي، ويُخرج السمَّ من جرح سطحي يخُطّه بمشرط صغير فوق موضع اللسعة، ويبرأ الملدوغ بعون الله، ويصيح الشيخ خليل » يا أهل الله». يأتي الشيخ خليل أبْ جلال، كان آنذاك قد تجاوز الستين لكنه نحيف نشيط، بجلبابه الأبيض وعمامته الخضراء التي تميزه عن سائر عمامات رجال قريتنا البيضاء، يدخل الشيخ إلي الوضوء بالماء الذي كان الشيخ حسين أبو سعيد رحمه الله قد امتاحه من البئر بمفرده، وكان مكفوف البصر يملأ أحواض مياه المسجد ليلاً ونهاراً، ولاسيما قُبيل الفجر في البرد القارس، يدخل الشيخ خليل أبْ جلال ويتوضأ ونحن نرمقه متلهفين إلي صعوده سُلّم المئذنة ثم يلف العمامتين في تؤدة، ثم ينظر للسماء ويهمهم بأدعية ثم يخطو باتجاه المئذنة، كيف كان يتحسس طريقه في الظلام حتي يصعد (جوسق المئذنة) أعلي المئذنة ؟ كيف تساعده قدماه للصعود الرأسي دون تعب؟ كان يمضي حتي يظهر في الشرّافة الأولي لكنه يختفي برهة ليصعد إلي الشرافة الثانية، حبسنا أنفسنا في تلهّف متسائلين متي يُكَبِّر؟، كانت كلُّ القري والمزارع حول القرية تنتظر طلعته علي الشرّافة الثانية وصوته المعبّر الذي لا يشبهه صوت أحد، الجميع متلهّف لصوته الذي يبدو كأنه قادم من السماء يتهادي في مسامعنا.. حينما يقول الشيخ خليل » الله أكبر الله أكبر » نجري في سرعة خاطفة في شوارع القرية الضيّقة ليبلغ كلٌّ منا أهله المتجمعين علي الطَّبلية في انتظار صوت الشيخ خليل أو قدومنا مستبشرين » افطر يا صايم » كان التمر في انتظارنا، لابد أن نبدأ بدعاء الإفطار »اللهم لك صُمت وعلي رزقك أفطرت، ذهبَ الظمأ وابتلَّت العروق وثبتَ الأجرُ إن شاء الله» نردده خلف أبي رحمه الله ثم نلتهم التمرات، وكان الحاج راضي أبو خبير من جزيرية أبنود صديقا لأبي وكان يأتي لنا بتمر رمضان، كانت نخلاته أعلي نخلات رأيتها في حياتي، وكان مذاق تمره مختلفاً، مذاق جميل، نتحلق حول المائدة، وكان الماء غير مسموح به في بداية الإفطار سوي كوب عصير واحد ثم صلاة المغرب وبعدها الأكل، تبدأ صلاة التراويح عقب صلاة العشاء وهنا نري الشيخ عبد الحليم الطاهر رحمه الله إمام المسجد وهو يقرأ القرآن الكريم بصوت خاشع مؤثر.. متي ينام الشيخ خليل؟ لا ندري لأنه بعد منتصف الليل يعلو المئذنة ويطوف حول الشرَّافة الثانية العالية، ثم يبدأ في صوت أشبه بالحداء، بالنداء علي النُّوّم يدعوهم للتهجد والعمل الصالح والعدل، ويخرج أحياناً عن النصوص التقليدية في إلهام إبداعي مدهش، ويختم: » قلوب العارفين لها عيون تري ما لا يراه المبصرون». وفي حديث الأستاذ أنور محمد عن الشيخ خليل جلال أشهر مؤذّن في العويضات ونواحيها علي الإطلاق يقول، »صوته تسمعه كلّ القري المجاورة للعويضات، ونفطر علي صوته وشدا بالآذان في مسجد العويضات العتيق كثيرون ولكن يبقي الشيخ خليل هو الأشهر، كان ظاهرة صوتية ففي صوته الخشوع والجمال والتقوي. كان عندما يقترب أذان المغرب يلتفّ أطفال وصبية البلدة حول مسجد العويضات العتيق يحملون مسدسات مصنوعة بطرق يدوية، ينتظرون الشيخ خليل ليؤذن المغرب متأهبين لإطلاق المسدسات التي كانت تدوي في جميع أنحاء القرية عند سماع صوت الشيخ خليل، مردّدين عبارة شهيرة، »يَدّنْ (أَذِّنْ) يا خليلْ يا بوعنق طويلْ» كان الشيخ خليل يفرح فرحا شديدا لسماع هذه العبارة ويشارك الأطفال عندما يكررونها عند رؤيته في أي مكان. ويقول الشيخ خليل معلقا علي هذا الكلام بقوله إن المؤذن أطول الناس أعناقا يوم القيامة» العجيب بعد وصول الكهرباء وشراء ميكروفون للمسجد تسابق المؤذنون وانتحي الشيخ خليل أب جلال جانبا يرصد هذا التسابق المحموم علي الميكروفون، وصعد إلي جوار ربه، رحِم الله هذه الأيام. »الطُّرْشيقة» كتب الدكتور ثابت هاشم عن ذكرياته في رمضان مستحضرا »الطرشيقة» في قريته دندرة التي تقع غرب النيل بقنا وبها معبد مشهور، كتب يقول »كان عم عبد الرحمن الجربوعي الله يرحمه يعتلي أطول نخلة في المنطقة ليضرب ب »الطرشيقة» فتُحدث صوتا هائلا يدوي في الآفاق... كان المسجد بعيدا عنا فلا نسمع الأذان ولا نعرف موعد الإفطار... وقبل الغروب بقليل كنا ننتشر في أماكن مختلفة ترقباً لصوت (الطرشيقة) ليؤذن لنا عم عبد الرحمن بالإفطار فقد كان قبل رمضان بأيام يصنع »الطرشيقة» من خليط بين الحلفا والليف ضخمة من قاعدتها رفيعة دقيقة في مقدمتها، وكانت تؤدي دَور مدفع الإفطار حين يمسكها بيده ويدور بها ثم فجأة يعكس دورانها. فاتني أن أقول إن عم عبد الرحمن الذي يعتلي النخيل كان من ذوي الاحتياجات الخاصة لكن الله وهبه التقوي والقوة.... كنا صغارا وما أجملها من ذكريات... يترقب كبراؤنا خبر رؤية هلال رمضان وعند ثبوتها تنطلق البنادق في كل بيت لتعلن لمن لم يسمع أن غدا أول أيام الخير والبركات... ننشغل نحن الصغار بجمع فوارغ الطلقات النارية لنصب فيها الرصاص في اليوم التالي ونغرس فيه مسمارا ليحفر مكانا نضع فيه قطع الكبريت مُشكّلين عددا من البنادق الصغيرة نلهو بها حتي عيد الفطر»... مُولد الشيخ ثابت ذات يوم فائت عدتُ من ألمانيا لأجد المراجيح تغطي ساحات القرية وشوارعها، كان الجو أسطوريا وكأنه كرنفال في ساحات برلين... تساءلت عما حدث في غيابي؟ جاء الجواب » مُولد » الشيخ ثابت.. أعرف مقام الشيخ ثابت من الأولياء المشهود لهم بالتقوي، دُفِن في شرق العويضات بنجع أخذ اسمه منه تبركاً به، وإن كان هذا النجع يتبع قرية الظافرية لكن أهل قريتنا حسبوه واحداً منا، وهذا شأن القري المحيطة، فأولياء الله تعالي قسمة عادلة في الأراضي، كلُّ له دَرَك لا يبرحه وهكذا المقامات والأضرحة.. لكن قبل ذلك لم يفكر أحد في إقامة مولد له، وجاءت الإجابة إن رؤي كثيرة تواترت لدي أشخاص صالحين في ليال معدودات تؤكد أنه يطلب مولدا له.. وهنا قرر المرحوم أبو الحمد الشريف وكان من مُحبّي آل البيت والصالحين أن يعرض الأمر علي أهل البلدة الذين وافقوه علي إقامة المولد استحضاراً لِسير الصالحين، وشهرةً للقرية، وترويحاً عن أطفالها وإنعاشاً لتجارتها، وقد كان.. لكن نفراً من أهل القرية لم يَرُق لهم ذلك لأنهم رأوا فيه طوفاناً من الناس الغرباء ستجتاز شوارع القرية، وسيجلب الضوضاء في أسبوع كامل بميكروفونات لا تعرف الصمت، ولكن هؤلاء لم يستطيعوا الوقوف أمام الجمهور المتعطش للفرحة والاحتفال. قرروا أن يبدأ المولد عقب مولد السيد عبد الرحيم القنائي بقنا ومولد السيد أبو الحجاج بالأقصر، أي بعد منتصف شعبان من كل عام ويستمر أسبوعاً، وهو توقيت ذكي لأن أصحاب المراجيح والألاعيب والسيرك بعد انفضاض المولديْن بقنا والأقصر لا يجدون سوي قريتنا ليقيموا أرجوحاتهم بها، وهنا انقلبت القرية الساكنة إلي مدينة صاخبة، لا تعرف تمشي في شوارعها ولا تتسامر مع أقربائك في مضيفاتها ومنادرها. لكن فرحة الأطفال وابتهاجهم بالحدث طغي علي قول كل معارض، والمكاسب المالية من التجارة أسكتت المنادين بإلغاء المولد، » وطالما أقيم المولد فلن يُلغي إلي يوم القيامة » هكذا قال أحد المدافعين عن المولد. تولي فرسان القرية والقري المجاورة إقامة سباق الخيول وفروسية المرماح التي جلبت الجماهير والمصوّرين للقرية، وكأنه مهرجان سباق الخيل العالمي، وصار لكل قبيلة فرسانها في المضمار، وبعد العصر يلعبون بالعصا في التحطيب وهي لعبة الرجال بقوانينها وأحكامها وفرسانها. في مساء صيف جلس كبار العائلات في »المَلَقَة» وهي ميدان القرية الفسيح وانقسموا بين مؤيد ومعارض للمولد؛ وكلُّ له وجهة نظره، وانصبّ هجومهم علي وجود الغرباء يمرون بالقرية، ووجود مراجيح تجعل الشباب لا يخشوشن، بجانب بعض النساء الغريبات اللواتي يزرن القرية ولا نعرف أصلهن وفصلهن؟. استمرت المناقشات حتي منتصف الليل، وودّع بعضهم البعض واتجه كل منهم إلي بيته، ليفاجأ كل منهم أيضاً بالآخر بعد ساعة في المراجيح دون اتفاق بينهم وراح كل منهم يقول للآخر : » صحيت من النوم وانت كنت ضد المراجيح ؟ » هل هذا حنين إلي الطفولة والشباب ؟ أو حنين إلي المرح والفرحة ؟ كلّ مولد وأنتم طيبون. زمان الإمبواخية لا أعرف من أين جاء هذا الاسم ؟ لكن ما أعرفه أن هذه الأكلة من أجمل الأكلات التي ارتبطت في مخيّلتي عندما كنت صغيراً، هل ذلك لطقوس طبخها ؟ ربما... كان بيتنا يشعر بتحرّك جدتي وأمي رحمهما الله نحو عمل الإمبواخية التي تبدأ بعمل تطوافة أشبه بفرن بلدي صغير الدائرة، ثم » بُرمة » ( قِدِر من الفخار ) يوضع بعد ملء ثلاثة أرباعه بالماء فوق الجمر ويُغطي القِدر بقِدر أخري مُخَرّمة القاع وتوضع فيها قِطع الفطائر العجينية المقطّعة بالسكين علي الطبلية، تُرصّ مع السمن البلدي وتسوّي بالبخار، كانت الطقوس المصاحبة للإمبواخية جزءاً منها كان الأمر يُسوّي علي مهل بُعيد العصر.. عندما يحين أذان المغرب نلتهم هذه الأكلة بالسكر والسمن البلدي وبعسل النحل، عندما كبرت بحثت عن الأمبواخية، كانت أخواتي يصنعنها من أجلي ويرسلن لي طبقاً كبيراً منها وكذلك صنعت حماتي، تطورت الأدوات وتغيرت الأسماء فصارت تُعَبَّأ في أكياس، وتُباع في السوبر ماركات، وأسموها »سِلاجة» هكذا يقولون عنها، وتَغَيَّرَ شكلُها وطَعمُها، وبقيت الإمبواخية القديمة مرتبطة في ذاكرتي بطقوس صُنْعِها، أخشي أن أتحدث كثيراً عنها حتي لا أري في رمضان القادم أكياس »الإمبواخية الصيني». في النهايات تتجلي البدايات قال ابن الرومي : وحَبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ مآربُ قضَّاها الشبابُ هُنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمُ عهود الصِّبا فيها فَحَنُّوا لذلكا