لم يتردد مطلقًا الناقد الكبير د. محمد عبد المطلب الحاصل علي جائزة الملك فيصل العالمية في اختيار شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجاني ليكون ضيفًا علي مائدته الرمضانية، يقول: عندما أتذكر عبد القاهر الجرجاني أتذكر علي الفور مقولة البحتري عندما سُئل عن أبي تمام: »والله ما أكلنا الخبز إلا بأبي تمام»، وهو قول ينطبق علي علاقتي بمؤلفات عبد القاهر التي صاحبتني منذ بداية التحاقي بكلية دار العلوم عام 1960، واستمرت المصاحبة حتي اليوم، لكن بعد تخرجي تحولت المصاحبة إلي »ملازمة»، ثم تحولت الملازمة إلي »مداومة» يومية بعد التحاقي بالعمل في الجامعة لتدريس البلاغة العربية، فلا يكاد يمر يوم دون الرجوع إلي أحد كتابيه: (دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة)، فإذا هلّ رمضان تحولت المراجعة إلي قراءة استغراقية وتأملية للكتابين. ويتابع د. عبد المطلب: أما الملازمة والمداومة بالرجوع بين الحين والآخر للكتابين، فهي رهينة بما يفد عليّ من منجزات الحداثة الغربية في النقد والبلاغة، إذ أسرع عقبها إلي عبد القاهر أسائله ما عنده مما يوافق هذا الوافد الغربي أو يناقضه من قريب أو بعيد، وكثيرًا ما كنتُ أجد عند عبد القاهر ما أسائله فيه، بل أجد عنده الإجابة المنصفة للثقافة العربية دون تلفيقٍ أو ليٍّ للنصوص، وبالطبع ستكون هناك مفارقة حتمية نتيجة للشرط التاريخي الذي يحكم مسيرة عبد القاهر ومسيرة نقد الحداثة، وهذا كله فصلته في كُتبي. ويوضح: أما الخلوص لكتابيْ عبد القاهر في رمضان، فذلك راجع بالدرجة الأولي إلي كتابه: (دلائل الإعجاز) بوصفه الكتاب المؤسس لقضية (الإعجاز القرآني) اعتمادا علي (نظرية النظم) التي جعلها مناط هذا الإعجاز، ومنها نجح الرجل في نقل النحو العربي من مرجعيته في تغير أواخر الكلم إعرابيا إلي جعله منتج الدلالة، فالنظم: (تنسيق الكلام علي ما يقتضيه علم النحو، وتعمل علي قوانينه وأصوله ومناهجه ورسومه فلا تخل بشيء منها) ومن ثم أعاد قراءة القرآن الكريم في ضوء هذه النظرية لتأكيد إعجازه النظمي، انطلاقا من قوله تعالي: »قل لئن اجتمعت الإنس والجن علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا»، ومن القرآن الكريم إلي مجمل المباحث البلاغية في علم البيان والمعاني والبديع، إذ جعلها كلها من منتجات علم النحو، ثم قاده هذا الوعي النقدي إلي كثير من البحوث التي ترتبط علي نحو من الأنحاء بمنجزات الحداثة. • عبد الهادي عباس