• كان شيئا جديدا أن ينجم صانع التغيير أو صانع الأمل في بلادنا العربية، فالنجومية في بلادنا محصورة في مجالات معينة ليس من بينها هؤلاء الذين يعملون في صمت ويفكرون في هموم الآخرين وينذرون حياتهم للدفاع عن قضية إنسانية مهما كلفهم ذلك. • التجربة هي الحياة. هي كل ما نمر به من أحداث، أشخاص، مواقف، ومفاجآت. خلال حياتي مررت بتجارب عديدة، منها الحلو، ومنها المر، لكنني أعتبرها جميعا مهمة لأنها شكلت في النهاية ما أنا عليه الآن. واليوم أشعر بحاجة ملحة لأن أشارككم قرائي الأعزاء واحدة من التجارب المهمة، الغنية في حياتي، وأن أحكي لكم تفاصيل لها دلالات قوية تخللت التجربة. دعوني الآن أبدأ الحكاية : في بداية شهر مارس 2017 فوجئت بأصدقاء مقربين يرسلون لي لينك إعلان عن مسابقة يؤسسها الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي، ورئيس مجلس وزراء دولة الإمارات العربية عنوانها "صناع الأمل". فتحت اللينك وقرأت تفاصيل المسابقة المثيرة للفضول. وقعت عيني علي عنوان: (عن صناع الأمل) تهدف المبادرة بشكل رئيسي إلي إلقاء الضوء علي ومضات الأمل المنتشرة في عالمنا العربي، والتي لمع من خلالها رجال ونساء من مختلف الأعمار عملوا بروح متفانية وقلوب نقية من أجل خدمة مجتمعاتهم ورفعة أوطانهم. وإيماناً وتقديراً للجهود الإنسانية والخيِّرية المبذولة، سوف تقوم المبادرة بتكريم هؤلاء العاملين وذلك من خلال دعمهم مادياً ومعنوياً وإبراز دورهم الفعّال للمجتمع كي يواصلوا مسيرتهم المعطاءة التي تسهم في بناء مجتمع ينعم بالرقي والازدهار في مختلف المجالات كالصحة والتعليم والعمل الشبابي والعمل التطوعي والإعلام الجديد. أقنعني فريق عمل جمعيتي "رعاية أطفال السجينات" وكل أفراد أسرتي وأصدقائي المقربين بترشيح نفسي لتلك المبادرة الإيجابية النبيلة. وهذا ما حدث، لكني في أعماق ذاتي لم أكن علي ثقة في أن مبادرتي أو بالأحري قضية عمري سوف تتقدم الصفوف وسط طوفان المبادرات الرائعة التي لابد سوف يتقدم أصحابها لهذه المسابقة من كل أقطار الوطن العربي. لكني قدمت والسلام حتي لا أتخاذل عن فرصة متاحة من الممكن أن تدعم فكرتي وتساند قضيتي. كنت علي ثقة كاملة من نزاهة مراحل المسابقة، والسبب أن صاحبها الشيخ محمد بن راشد، وهو رجل يجبر الإنسان علي احترامه، يكفي ما صنعه بإمارة دبي التي أصبحت من أكثر مدن العالم تطورا وتقدما. يكفي الاستراتيجيات التي يدفع بها إلي دائرة العمل الإداري في كل المؤسسات. يكفي مؤشر السرعة في الإنجاز الذي أضيف مؤخرا إلي مؤشرات الأداء الحكومي الذي تراه في كل مكان هناك. إنه الملهم لشعبه، ومصدر الطاقة الإيجابية التي تلمسها في وجوه الناس هناك، ومن خلال شهاداتهم الحية. لذلك كنت واثقة أن فكرته النبيلة في دعم وتشجيع من أسماهم ب"صناع الأمل" سوف تنجح، وأنه لن يسمح بأي مجاملات في تنفيذ مراحل المسابقة واختيار الفائز باللقب العظيم "صانع الأمل" في الوطن العربي. بعد حوالي شهر من التقديم "أون لاين" فوجئت بمكالمة هاتفية من دبي يخبرني خلالها محدثي أنني ضمن التصفيات قبل النهائية لمسابقة صناع الأمل، ويسألني إن كنت أستطيع السفر إلي دبي لإجراء مقابلة شخصية مع لجنة التحكيم. سافرت وقلبي يخفق بالفرحة، وزادت فرحتي عندما وصلت إلي هناك لأجد فريق عمل صناع الأمل من خيرة الشباب، يستقبلوننا جميعا نحن الذين وصلوا لمرحلة التصفيات قبل النهائية كما يستقبل نجوم السينما والطرب والرياضة!! كان شيئا جديدا أن ينجم صانع التغيير أو صانع الأمل في بلادنا العربية، فالنجومية في بلادنا محصورة في مجالات معينة ليس من بينها هؤلاء الذين يعملون في صمت ويفكرون في هموم الآخرين وينذرون حياتهم للدفاع عن قضية إنسانية مهما كلفهم ذلك. تمت المقابلة الشخصية وسافرت، لكني قبل سفري قابلت مجموعة من المرشحين الآخرين من دول أخري علي عشاء جمعنا أقامته مبادرة صناع الأمل. تعارفنا واستمعت إلي قصص الكثير منهم ومنهن، لأفاجأ بقصص أقوي من أعتي قصص الدراما. قصص من دم ولحم الواقع. نوال الصوفي من المغرب، هشام الذهبي من العراق، معالي العسعوسي من الكويت، رائد الصالح من سوريا، رزان من الأردن، هبة السويدي وشريف شاهين وماجي جبران،و أنا من مصر. خمسة عشر قصة كل منها تصنع ملحمة حقيقية في العطاء الإنساني الحقيقي الذي يهز القلب، ويدمع العين. بشر مختلفون، نوعية أخري غير الذين نراهم يتصارعون من أجل الحصول علي مكسب مادي أو منصب أو جاه. هؤلاء جميعا لديهم عوالمهم المختلفة جدا، طموحاتهم ترتبط بإنقاذ الضعفاء، الفقراء، البسطاء، ضحايا الهجرة غير الشرعية، والأيتام، وضحايا الصراع الدامي في سوريا الذين يخرجونهم من بين الأنقاض. قصص تدمي العيون والقلوب غمرتني بإحساس خاص، عشت به منذ تلك الليلة التي التقيت فيها بصناع الأمل فعلا حقا وقولا. تمنيت أن يفوزوا جميعا، بل شعرت أنهم فائزون بالفعل. أنهم يعيشون لمعني، لهدف رائع يجعل التعب يهون، والمال يفقد فتنته ويتحول إلي وسيلة لزيادة العمل مع الناس الذين يعيشون قسوة وذل الحياة،هؤلاء الذين سخروا حياتهم ليمدوا لهؤلاء أيادي قوية محبة مؤمنة بأنه ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط. رجعت إلي مصر محملة بتلك المشاعر العميقة، التي اخترقت قلبي وروحي، وشحنت ينابيع إنسانيتي. وانتظرت نتيجة المسابقة كما انتظرها الجميع. عرفت أن هناك 65 ألف مرشح من 22 دولة عربية. كما عرفت أن 22% منهم من مصر وهذا شئ يفرح ويؤكد أننا نملك كنوزا بشرية في أرض الكنانة يعملون بكد واحترام من أجل إنقاذ الآخرين وتغيير حياتهم. وجاءتني المكالمة الهاتفية الثانية قبل عشرة أيام يخبرني خلالها أستاذ محمد عمران المشرف علي تنظيم حفل اعلان النتيجة أنني ضمن الخمسة عشر صانع أمل المدعوين لحضور الحفل الختامي واختيار الخمسة الفائزين وتتويج الأول للحصول علي الجائزة المالية وقدرها مليون درهم إماراتي. تأهبت مدينة دبي للأستوديوهات للحفل الكبير، وانتظرنا جميعا النتيجة بقلوب ترتجف من نبل اللحظة فكل منا صانع أمل سواء حصل علي الجائزة المالية أو لم يحصل. يكفي هذا التقدير الرائع، يكفي هذا الاحتفاء بمعني غاب طويلا عن عالمنا العربي. وفي حفل مبهج تخللته فقرات غنائية من محمد عساف وأطفال ذا فويس وعزف كمان وفي حضور كبار رجال الدولة وعلي رأسهم الشيخ محمد بن راشد، ونجوم الإعلام العربي وجماهير كبيرة حرصت علي حضور الحفل الفريد تم الإعلان عن الخمسة الفائزين بلقب صانع الأمل. وكانوا بالترتيب : نوال الصوفي.. هشام الذهبي.. معالي العسعوسي.. رائد الصالح.. ماجدة جبران أو ماما ماجي. و الآن دعوني أقدم هؤلاء إليكم ليس بأسمائهم ولكن بنبذة قصيرة جدا عن مبادراتهم المؤثرة، التي تفجر طاقات الخير والإنسانية في دنيانا وبلادنا العربية. كما سأحكي عن الزملاء الثلاثة من مصر الذين وصلوا إلي التصفية الأخيرة، لكني لن أحكي عن نفسي. نوال الصوفي نوال شابة مغربية تعيش في صقلية بإيطاليا، تطوعت قبل سنوات لمساعدة القادمين عن طريق البحر في قوارب الهجرة غير الشرعية، وكانت تذهب إلي محطات المترو للقائهم ومحاولة توفير أماكن تؤويهم ومساعدات إنسانية لهم. وضع هؤلاء رقم تليفونها علي كل صفحات الفيسبوك الخاصة بهم. وفي يوم موعود أو لحظة فارقة في حياتها جاءتها مكالمة من إنسان يغرق في عرض البحر، يصرخ بصوت مرتجف ويقول لها: أنقذينا يا نوال! ركضت لا تعرف كيف تتصرف لكنها طلبت منه تحديد مكانه، وذهبت إلي خفر السواحل تستحثهم لسرعة التوجه إليه وإنقاذه هو و400 من الضحايا القادمين من سوريا ومصر وليبيا. وبالفعل استطاعت إنقاذهم، ومن هنا بدأت قصة طويلة لم ولن تنتهي في تبني إنقاذ المهاجرين الهاربين من ويلات الحروب أو ذل الفقر، هؤلاء الذين يلقون بأنفسهم إلي المجهول. فازت نوال الصوفي باللقب عن جدارة، فعندما ألتقيتها كانت في حالة توتر دائم ليس بسبب انتظارها للنتيجة، وإنما لأنها أصبحت كذلك منتظرة دائما، والموبايل كأنه ملتصق بكفها كما تقول، لا تستطيع أن تتركه حتي وهي نائمة، لأنه من الممكن أن تصلها إستغاثة من أحد القوارب في أي وقت من الليل أو النهار! ملاك أنت يا نوال أم بشر؟ هشام الذهبي هشام رجل هادئ، علي ملامحه ترتسم الحكمة، وفي عينيه نظرة تأمل، وعمق. جذبته قضية الأيتام في بلده العراق، فقرر أن يحول بيته إلي "البيت العراقي" يؤوي فيه الأطفال الأيتام، لا لكي يكفلهم بالمعني الحرفي للكلمة بل ليربيهم كما لو كانوا أبناءه الحقيقيين، أسس برامج لهم للرسم والإبداع واكتشاف المواهب الكامنة في كل منهم. وبالفعل وصل الكثير منهم إلي مستويات مرتفعة في التفوق والإبداع. ليس هذا فقط بل تبني ثمانية منهم فعليا وأصبحوا يحملون اسمه. قاطعه والده لفترة ثم صالحه بعدما اقتنع بالفكرة النبيلة التي يعمل عليها وهي ليس الاحسان علي الأيتام فحسب بل رعايتهم نفسيا ودراسيا وإنسانيا ليكبروا بلا عقد أو أي احساس بالنقص. حكي قصة لطيفة ومؤثرة في الحفل ملخصها أن أحد الآباء طرق البيت العراقي حيث يبدع الأيتام وقال له هل أموت حتي تقبل إبني لينضم إلي هذا البيت البديع؟ هشام الذهبي هو صانع الأمل الثاني. يا الله عليك يا هشام ! قلب من ذهب. معالي العسعوسي لم أتخيل أن ألتقي سيدة كويتية لها شخصية معالي، فالصورة الذهنية لنساء الخليج أنهن مرفهات، أو كما قال لها الإعلامي القدير أحمد الشقيري عضو لجنة تحكيم الجائزة مداعبا: كنت أحسبك تتجولين في المولات وتبحثين عن آخر الصرعات في عالم الموضة لا أن تهاجري من بلدك الآمن المستقر، وتذهبي بمحض إرادتك إلي منطقة صراعات وحروب وفقر ومرض في اليمن. هذا ما فعلته معالي بالضبط، كانت متطوعة، ذهبت بالصدفة إلي اليمن فرأت الأهوال التي يعيشها البشر هناك، فقررت أن تترك منطقتها الآمنة، وتعرض حياتها للأهوال من أجل علاج وتوعية وتأهيل المحتاجين في اليمن. وقتها لم تكن متزوجة، هذا منذ عشر سنوات، لكنها الآن متزوجة ولا تزال تذهب إلي ميدان عملها مثل الجندي في الميدان، تعيش شهورا في اليمن ثم تعود إلي الكويت لفترة قصيرة وتعاود الكرة، الجميل أن زوجها وعائلتها كلها أصبحوا من المؤمنين بفكرتها ورسالتها، يسافرون معها، ويقوم كل منهم بعمله. ألست رائعة وقائدة يا معالي ؟ متعك الله بالقوة والقدرة علي العطاء وبث طاقة الأمل. رائد الصالح رائد هو سوري وطني مزقه مشهد أهل بلده يموتون تحت الأنقاض جراء القصف والدمار في سوريا. أسس مؤسسة الخوذات البيضاء أو الوايت هيلمز وكون فرق إنقاذ لانتشال ضحايا الهدم والنيران ومحاولة إسعافهم. أنقذ الآلاف من الضحايا، ولا يزال. شباب مثل رائد يستحقون اللقب وأكثر. ماما ماجي قيمة الإنسان لا تضاهيها أي قيمة أخري. هذا ما قالته ماما ماجي ردا علي سؤال لجنة التحكيم عن السبب الذي جعلها تنذر حياتها للفقراء المحتاجين في حي الزبالين. بدأت حكايتها قبل ثلاثة عقود عندما كانت في زيارة عابرة لذلك الحي، فهالها ما رأت من بؤس، كانت وقتها أستاذة علوم الكمبيوتر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. تخلت عن حياتها، التي لم تعرف فيها مشاعر الفقر أو الحاجة، وتركت وظيفتها في الجامعة الأمريكية، ويمّمت وجهها صوب مآسي أبنائها وأشقائها في الإنسانية. تكررت زياراتها إلي حي الزبالين، وفي كل مرة كانت تلتقي عدداً كبيراً من سكان الحي، تستمع لهم ولاحتياجاتهم، تجلب لهم بعض المساعدات الأساسية، وتوزع علي الصغار الهدايا، حتي باتت "ماما ماجي" وجهاً مألوفاً ينتظره الكبير قبل الصغير بشوق، واجدين في حنانها وعطفها وابتسامتها الصافية ملاذاً ونجدةً، والأكثر من هذا وذاك أن ماما ماجي كانت تُعزز لديهم إحساسهم بإنسانيتهم وكرامتهم وأحقيتهم في الحياة. أسست ماجدة جبران مؤسسة "ستيفن تشيلدرن" الخيرية، التي تقوم رسالتها علي المساهمة في إنقاذ الحياة وصنع الأمل وحفظ الكرامة البشرية للأطفال والشباب الفقراء والأقل حظاً، وتوفير التعليم والتدريب لهم بالإضافة إلي مساعدة أسرهم لتحسين وضعهم المعيشي. وسرعان ما امتد نشاطها ليشمل عشرات الأحياء الفقيرة، من خلال العديد من الحملات والمبادرات الإنسانية والمجتمعية والتعليمية والتدريبية، التي استفاد منها الآلاف من الأسر والأطفال. حتي اليوم أسست "ماما ماجي" من خلال جمعيتها 92 مركزاً توفر الرعاية والتعليم لأكثر من 18 ألف طفل، كما تسهم في توفير العلاج لأكثر من 40 ألف حالة مرضية سنوياً، إلي جانب القيام بزيارات تفقدية لأكثر من 13 ألف طفل يقوم فيها المتطوعون في المؤسسة بتقديم الإرشاد النفسي والتدريب لهم. يستفيد من خدمات جمعية ستيفن تشيلدرن اليوم نحو 33 ألف طفل. مبروك ماما ماجي يا صانعة الأمل. هبة السويدي هي قلب كبير يمشي علي قدمين، يعرفها كثير من المصريين، خاصة شباب ثورة يناير 2011. كانت هي الملاذ للمصابين في الميدان، أقامت مستشفيات ميدانية لإنقاذ مصابي الثورة علي نفقتها الخاصة. هالها مشهد فتيات وشباب يعرضون للحروق بمختلف درجاتها، ففكرت في إنشاء مؤسسة أهل مصر هدفها علاج الحروق، بعدما اكتشفت حقيقة مأساوية وهي أنه لا يوجد مستشفي متخصص لعلاج الحروق في مصر. فقط أقسام بالمستشفيات العامة ينقصها الكثير من الأجهزة والتدريب علي علاج الحروق. والآن تعمل هبة علي إنشاء أول مستشفي متخصص في علاج الحروق في مصر مجانا لغير القادرين. ألم أقل لكم أنها قلب كبير يمشي علي قدمين؟ شريف شاهين واجه شريف محنة فقد ساقه في حادث أليم في طفولته، اضطره أن يعيش بجهاز تعويضي. ولأنه شخصية استثنائية حول الألم إلي أمل، تفوق في دراسته، وتجاوز محنته، حتي تخرج في كلية الهندسة جامعة المنصورة. لكنه لم ينس من يعيشون نفس المحنة التي تعرض لها في طفولته، فقرر أن يبحث عنهم، ويصنع بنفسه أجهزة تعويضية لغير القادرين. أسس مبادرته، وكون فريق عمل من زملائه يقومون بحملات في المناطق المحرومة من الخدمات الصحية، ويمنحون الأمل لأشخاص فقدوا الأمل. شريف نموذج مضئ، ملهم لملايين الشباب. مبروك يا صانع الأمل.