غالبية المتشددين من كليات الطب والهندسة وهذا يجعلنا نقف أمام ظاهرة في حاجة إلي دراسة وتحليل ومعالجة لماذا يميل بعض طلاب وخريجي الكليات العملية إلي التشدد؟ ولماذا نري التعصب والميل إلي العنف في بعض طلاب الكليات العملية فهناك أسماء مثل بن لادن وأيمن الظواهري ومصطفي شكري وصفوت عبد الغني وناجح إبراهيم »في بدايته» وغيرهم أظهروا ميلا إلي العنف هل لأنهم يقضون سنوات تعليمهم في المعامل ولا يرون الخارج إلا قليلا؟ هل لأن مناهجهم الدراسية خَلَتْ من المواد الثقافية ولاسيما الأدبية وخلت من المواد البيْنية والعلوم الإنسانية؟ أو أن ذلك عائد إلي أن علومهم وتجاربهم علّمتهم طرائق العمل محدّدة سلفاً وأن النتيجة لا تقبل إلا رقماً أو رمزاً أحاديا غير قابل للتعدد؟ أو لأنهم لا يرون من الحقيقة إلا وجهاً واحداً، هل لأنهم لم يدرسوا علوم اللغة ولم يبحروا في علوم الفقه والشريعة فأخذوا فتاوي المتشدّدين علي أنها فتاوي مقدسة نهائية لا تقبل النقد اعتماداً علي نصوص لم يعرفوا الناسخ والمنسوخ منها ولم يدرسوا علم التأويل فظنوا التفاسير قطعيّة الحجة وأحاديّة الدلالة؟ وربما لأنهم لم يدرسوا الشعر والرواية والسّرد بأنواعه لذا لم يروا سوي وجه واحد للغة؟ ولأنهم لم يدرسوا النحو والصرف فهم يخطئون في فهم الآيات والأحاديث، وأحياناً يُخطئون في قراءتها. وليس هذا معناه أن طلاب العلوم الإنسانية أبرياء من التشدد والتعصّب، فهناك أمثلة أيضاً مثل عمر عبد الرحمن وسيد قطب وأبو بكر البغدادي الذي درس الشريعة في جامعة بغداد وغيرهم لكنهم مقابل الكم الكبير من خريجي العلوم التطبيقية يبدون عددا قليلا. غالبية المتشددين من كليات الطب والهندسة وهذا يجعلنا نقف أمام ظاهرة في حاجة إلي دراسة وتحليل ومعالجة لأن ذلك يتطلب إضافة مواد إنسانية ثقافية يوضع لها ثِقل تعليمي كالمقررات التي يدرسونها، فكل جامعات العالم يدرس الطالب رُبْع مواده الدراسية علي الأقل من خارج قسمه وكليته، فلا يعقل أن يتخرج طالب ألماني من أية كلية دون أن يدرس لغتَه الألمانية ومجتمعه والفلسفة وتاريخ بلده والعالَم الخارجي وأوليّة البحث العلمي ومناهجه، هذا مع عودة الأنشطة اللاصفية كالندوات الثقافية والأمسيات الشعرية والمسرحيات والإنشاد والغناء والمحاورات الفكرية حتي تتّسع رؤي الطالب الذي سيتخّرج ليبني مجتمعا صغيراً يكوّن مجتمعا كبيراً مع ضرورة محاورتهم والاستماع إليهم وتعريفهم أن الجانب الذي تري منه الحقيقة يُخفي جوانب أخري يراها الغيرُ غَيْرَ ما تري، فلِلحقيقة وجوهٌ أخري. حكي لي طبيبٌ مشهور أنه عندما كان طالباً يدرس بطب القصر العيني كان من هُواة الموسيقي وكوّن مع مجموعة من زملائه فرقةً موسيقية طلابية فمنحهم العميد حجرة صغيرة يتدربون فيها لحفلات الكلية المجانيّة، وفجأة اقتحمها الطالب عبد المنعم أبو الفتوح وجماعته وكسّروا الآلات الموسيقية كما لو كانوا يحطّمون أصنام كفار مكة، وكتبوا علي باب الحجرة » مُصلّي » علي الرغم من وجود مسجد مجاور ثم أغلقها بالضبة والمفتاح ومن يومها لم تُفتح ولم يُصلِّ بها أحد، وحرمنا من هوايتنا. قواعد العشق الأربعون بالسلام هل للعشق قواعد ؟ نعم وعددها أربعون حيث تأتلف الأرواح مع جلال الدين الرومي وأستاذه شمس تبريزي الذي يحاول أن ينقذ الإنسان من جبروته وشروره وحروبه.. يمضي شمس ليمنح الفقراء غني النفس ويفتح للروح طريق الأمل.. ما قالته إليف شافاق في روايتها »قواعد العشق الأربعون» أخذه المخرج النابه عادل حسان الذي يؤمن بمقولة »إن السعي وراء الحب يغيّرنا ، فما من أحد يسعي وراء الحب إلا وينضج أثناء رحلته، وما إن تبدأ رحلة البحث عن الحب حتي تتغير من الداخل والخارج» ليجعله نصا سهلا للناس، نصا يبحث في الإنسان عن الإنسان، في الديكور البسيط المعبّر الذي صمّمه مصطفي حامد، بدا المسرح طابقين يجمع بينهما البحث عن الإنسان الذي أضاعته الحروب والتكالب الدنيوي، علي يمين الطابق العلوي راقص مولوي وعلي يسار الطابق الأرضي مولوي آخر أيضاً لكنهما استطاعا أن يجعلا - بفضل شمس - كلّ الشخصيات تدور وترقص لتسمو إلي الأعلي في مشهد ذكّرنا برقصة زوربا، فتحيّة إلي فرقة المولوية العربية (علي طه ووليد عبد العزيز) التي جعلتنا نحلق في المطلق، وقد أدخل المخرج صوتين مؤثرين بأشعار ابن الفارض: قلبي يُحَدّثني بأَنّكَ مُتْلِفِي روحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي لم أقضِ فيِه أسيً ومِثليَ مَنْ يَفي ما لي سِوَي روحي وباذِلُ نفسِهِ في حُبّ مَن يَهْواهُ ليسَ بِمُسرِف فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَني يا خَيبَة المَسْعَي إذا لم تُسْعِفِ يا أهلَ وُدّي أنتمُ أَمَلي ومَن نَادَاكُمُ يا أَهْلَ وُدّي قد كُفي عُودوا لِما كُنْتُم عليه من الوفا كَرَماً فإنّي ذَلِكَ الخِلّ الوَفي وحياتِكُمْ وحياتِكُمْ قَسَماً وفي عُمري بغيرِ حياتِكُمْ لم أحْلِف لو أَنّ رُوحي في يدي وَوَهَبْتُها لمُبَشّري بِقُدُومكمْ لم أُنْصِف لا تحسَبُوني في الهوي مُتَصَنّعاً كَلَفي بِكُمْ خُلُقٌ بغيرِ تكلُّف أخفَيتُ حُبّكُمُ فأخفاني أسيً حتي لعَمري كِدْتُ عني أختفي وكتمْتُهُ عنّي فلو أبدَيْتُهُ لوَجَدْتُهُ أخفي منَ اللُّطْف الخَفي يتجاوب الحضور مع هذا الإشراق، تأتي القواعد علي لسان جلال الدين الرومي وشيخه شمس الذي يزرع في كل مكان يزوره شجرةَ محبة تتعلق به، صار شمس رمزا للحقيقة والحب. تحية إلي مخرج هذا العرض وإلي مُمثّليه الذين أبدعوا في أدوارهم فرُحنا نبحث في أنفسنا عن شمس. تحية إلي القائمين علي مسرح السلام ومديره أشرف طلبة الذي نصحنا أن نبحث عن عشقنا في » قواعد العشق الأربعون » كما لا ننسي إسماعيل مختار رئيس البيت الفني للمسرح وتحية إلي محب الثقافة وعاشق المسرح الأستاذ ممدوح حفني الذي يشجع شباب الجامعات علي ارتياد المسارح، فالإرهاب لن يجتث إلا بالثقافة. وتحية إلي مَنْ أشرفَت علي ورشة الكتابة رشا عبد المنعم وياسمين إمام شغف وخيري الفخراني لأنهم حولوا نص الرواية إلي نص مسرحي يشترك المتلقي في كتابة جُمله... وإلي هذه الموسيقي التي جاءت تمسح أوجاع الناس للدكتور محمد حسني، وأما أزياء مها عبد الرحمن فهي بسيطة تنمّ عن عصورها، وشكراً للمخرج المنفذ حازم الكفراوي، وأما بهاء ثروت فقد أبهرني بأدائه الرائع وهدوئه ولغته البليغة وألفاظه الفصيحة لاسيما أنه يتحدث في نص أدبي، وقد كتب شهادة تفرده مع هذا العرض مع زملائه الذين أجادوا أيما إجادة في أداء أدوارهم جميعاً. وكل التحية إلي هذا الصوت الشجي سمير عزمي وتحية إلي فوزية وعزت زين وأميرة أبو زيد ودينا أحمد وإيهاب بكير وهاني عبد الحي ومحمد عبد الرشيد وياسر أبو العينين وهشام علي وهدي عبد العزيز وحسام أبو السعود وإسلام بشبيشي وهاني ماهر وأحمد سيف وعمرو حداد وإيمان ومصطفي حسن ونيرة وعبد العزيز محمد وعلي الصباحي ومحمد شوقي وحاتم علي وحسام محمد. هل نجد هذه المسرحية تطوف في جامعاتنا في العام القادم لكي يعرف شبابنا أن الأمل في أنفسهم وأن الإنسان يمتلك قوي الروح التي من الممكن أن تغير العالم بالعشق والحب والسلام، هذا العشق الذي عبّر عنه ابن الفارض: قلبي يُحَدّثني بأَنّكَ مُتْلِفِي رُوحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي لم أقضِ فيِه أسيً ومِثليَ مَنْ يَفي ما لي سِوَي روحي وباذِلُ نفسِهِ في حُبّ مَن يَهْواهُ ليسَ بِمُسرِف فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَني يا خَيبَة المَسْعَي إذا لم تُسْعِفِ ويمضي الإنشاد الجميل: يا أهلَ وُدّي أنتم أَمَلي ومَن نَادَاكُمُ يا أَهْلَ وُدّي قد كُفي عُودوا لِما كُنْتُم عليه من الوفا كَرَماً فإنّي ذَلِكَ الخِلّ الوَفي لو أَنّ رُوحي في يدي وَوَهَبْتُها لمُبَشّري بِقُدُومكمْ لم أُنْصِف لا تحسَبُوني في الهوي مُتَصَنّعاً كَلَفي بِكُمْ خُلُقٌ بغيرِ تكلُّف أخفَيتُ حُبّكُمُ فأخفاني أسيً حتي لعَمري كِدْتُ عني أختفي وكتمْتُهُ عنّي فلو أبدَيْتُهُ لوَجَدْتُهُ أخفي منَ اللُّطْف الخَفي ومن عجب أن من اشترك في هذا العمل بلغوا » أربعين » فرداً، ويبدو أن عدد الأربعين يسيطر علي العمل، لكن وراءهم عدداً أكبر من المساعدين الذين تواروا وراء حجاب ليظل العشق هو الأبهي والأجمل والأكثر وضوحاً.. فتّش في ذاتك عن عشقك.. الِمَغَرْبات وأربعون وليًّا علي مقربة من قريتي العُويْضات بصعيد مصر تقع مجموعة من البيوت وسط حقل زراعي ممتد اسمه » التّمّة » وحتي تصل إلي هناك لابد أن تمرّ بكوم المؤمنين وهو نجع صغير يسكُنه خِيار الناس.. ستمرّ به ثم تدخل في حقول قصب السكر ثم تتراءي لك مجموعة البيوت المتناثرة الملتفة حول بعض النخيل وشجرة نبق قديمة يلفّها سكون جميل.. عندما كنت صغيرا ذهبتُ في إجازة آخر العام مع أبي رحمه الله لأَرضِنا هناك.. وكان أبي يحكي لي عن هؤلاء الأربعين وليًّا الذين يجتمعون في المَغرْبات كل أربعين يوما في هذا المكان وسط الحقول، تناثرت الحكايا والرّؤي عن هذا الاجتماع الذي شدّني، فقائل يروي أنه رآهم يأتون مَشّائين في الهواء بملابس بيضاء في جنح الظلام تشع وجوههم نوراً يملأ أرجاء المكان يجتمعون ويُصَلون جماعةً ويتشاورون حتي قبُيل الفجر ثم يغادرون مشياً في الهواء بسرعة فائقة، يعودون إلي أماكن دَرَكهم في بقاع الأرض... وقائل آخر إنه حاول أن يتحاور معهم ويسألهم الدعاء لكن أجسامهم تحولت إلي أنوار أبهرت عينيه. وأنه تمتم بدعاء استجيب وهذا سرّ غِناه، تتواتر الحكايا في أذنيْ الطفل الذي كُنتُه وكم تمنّيت أن أحضر اجتماعا من هذه الاجتماعات التي يعلوها عمودُ نور يشق عنان السماء كما قيل. وكنت أتساءل لماذا هم أربعون ؟ هل هم البدلاء الذين إذا مات أحدهم انتقلت الولاية لآخر؟ الأسئلة تتري والروايات تتواتر في جوٍ لا كهرباء به آنذاك، ولا أجهزة إليكترونية تحاصر الخيال في عقول أطفالنا وشبابنا ومازلتُ مؤملا أن أري الأربعين وليّا. النبيل محمد جبريل لا تُخْفِ ما فعَلتْ بك الآلامُ واسكبْ جراحَك، كلُّنا أجسامُ مَن مِن الأدباء لم يقدّمه النبيل محمد جبريل؟ ومن منا لم يهمس في أذنه بنصيحة تعدّل مسار إبداعه؟ هذا الكاتب الذي امتهن الصحافة وحِرفة الأدب معا، منح الأدب والأصدقاء كل ما يملك من وقت وجهد وأخذ بِيَد كثيرين، ظل ينقد من غير تجرِيح، ويشكو من غير تصريح ، حتي في عنوان أدبيته الرائعة »مقصدي البوح لا الشكوي» نجد همس الشكوي لا أنينها ونجد نُيل التحمّل لا ضجيجه، ربما بدت العملية الجراحية الأخيرة خطأ طبياً حمّلَه آلاماً موجعة لكنها أنتجت نصاً أدبياً مدهشاً... لا تخف من المرض، ألست أنت القائل في روايتك »مقصدي البوح لا الشكوي» »نحن نخاف عندما نفكر في الخوف» تحية إليك أيها الإنسان النبيل. دَكْتَرةُ الذّات لماذا يلجأ بعض الناس إلي دَكْترة أنفسهم دون حصولهم الحقيقي علي درجة الدكتوراه الحقيقية؟ هل يرون في ذلك نصراً في أن يمنحوا أنفسهم درجة علمية لم يحصلوا عليها؟ هل هذا من باب الأمل والتفاؤل وأنهم يتمنون ذلك فوهبوا أنفسهم دكتوراه وَهْبيّة من وَهْبيات الأمل ؟ لماذا لا يرضي الإنسان بما وهبه الله تعالي، ويسعي للحصول علي ما يأمل.. أما أن يكتب » دالاً » قبل اسمه دون الحصول عليها فهذا يوقعه تحت طائلة القانون ، فأنت بذاتك لا بِ»دَالِك» ، وقد يحصل أحد الناس عليها وهو لا يستحقها.. فكُنْ ذاتَك وأصْلِحْ منها ، ذلك خير من أن تكون غيرك. من حكايا التراث روي ابن داود الأصبهاني في كتابه »الزهرة» قال بعض الحكماء: ربَّ حربٍ جُنيت من لفظة، وربَّ عشق غُرس من لحظة، وقال العتبي أبو الغصن الأعرابي قال: خرجت حاجًّا فلما مررت بقباء تداعي النَّاس ألماً وقالوا قد أقبلت الصقيل فنظرت وإذا جارية »أي فتاة» كأن وجهها سيفٌ صقيل فلما رميناها بالحدق ألقت البرقع علي وجهها، فقلت: يرحمكِ الله إنا سفرٌ، وفينا أجرٌ، فأمتعينا بوجهكِ فانصاعت، وأنا أري الضحك في عينيْها وهي تقول: وكنتَ متي أرسلتَ طرفكَ رائداً لقلبكَ يوماً أتبعتكَ المناظرُ رأيتَ الذي لا كلُّهُ أنتَ قادرٌ عليهِ ولا عنْ بعضهِ أنتَ صابرُ بالعربي: واحِشْنا محمد العزبي هل يعتزل المبدع والكاتب أم يستريح كهَدأة المحارب؟ اكتب لنا مقالا كل فترة حتي نعرف رأيك في أمورنا، لا تحرمنا من كلمات أيها الكاتب الرائد. البدايات تجلي في النهايات قال ابن الفارض: تِهْ دلالاً فأنتَ أهلٌ لذاكا وتَحكّمْ، فالحُسْنُ قد أعطاكَا ولكَ الأمرُ فاقضِ ما أنتَ قاضٍ فعلّي الجمالُ قدْ ولاّكا