حققت كل أحلام الطفولة إلا واحدا، نعم كل ما حلمت به وأنا طفل صغير ولم أتمكن وقتها من تحقيقه تحقق كاملا بعد أن كبرت، بعض من تلك الأحلام تحقق وعشته بمفردي والغالبية من أحلام الطفولة عشتها فيما بعد من خلال بناتي، ومع ذلك ظل هذا الحلم حتي الآن يراودني ولا يتحقق، حلم بسيط وربما يبدو ساذجا لكن كلما اقتربت من تحقيقه وجدته يبعد من جديد، وكلما أصبح في متناول يدي تسرب من بين أصابعي كما لو كان قد دخل معي في حالة من العناد، ولأني لا أمتلك شخصية مقاتل استسلم للهزيمة لحين إشعار آخر. كنت ومازلت أحلم بأن أمتلك »طيارة ورق»، ألم أقل لحضراتكم أنه حلم بسيط جدا؟، بدأ ذلك الحلم وأنا طفل يلهو مع أقرانه في شارع محمد فريد بحي المنشية العتيق بالأقصر، وفور أن يهل علينا الصيف تجد سماء الأقصر وقد امتلأت بطائرات ورقية عجيبة الأشكال والألوان ومختلفة الأحجام والأنواع تخصص في صناعتها شاب كان يكبرنا بقليل علي بعد شارعين من شارعنا، كنت أرقبه يوميا وهو ينطلق بالطائرات وقد أحكم قبضتها بيده إلي منتزه سيدي أبي الحجاج الأقصري، المتنفس الوحيد لشباب المدينة في تلك الأيام الجميلة حيث كان يبيعها فور وصوله للمنتزه. كنت أستمتع وأنا أتفحص الطائرات وهي علي ممر الانطلاق علي الأرض قبل أن تصعد للسماء، كانت الطائرات مصنوعة من بعض الأعواد الخشبية يتم ربط بعضها ببعض مع تثبيتها علي ورق سوليفان جميل الألون ثم يوضع في نهاية الطائرة ذيل ورقي مشرشر يرفرف عاليا وفي القلب منها حبل متين طويل علي »بكرة» طرفه مثبت في منتصف الطائرة بإحكام شديد والطرف الآخر في قبضة المحظوظ صاحب الطائرة الذي يمسك ببكرة الحبل ويبدأ بمهارة شديدة في إطلاق الطائرة وكلما أراد لطائرته أن ترتفع أكثر أرخي لها بعضا من الحبل المتحكم فيه وما هي إلا لحظات قليلة إلا وتجد كل تلك الطائرات التي كانت تزين أرض المنتزة قد انطلقت في سرب رائع يجوب سماء الأقصر، وذيولها خلفها تعزف سيمفونية ألوان زاهية يعبث بها الهواء كيف يشاء ليحدد مسار الطائرة وأظل أنا علي الأرض أتابعها في شغف وشوق منذ اللحظة التي تنطلق فيها كل طائرة والوجهة التي تتجهها ومسجلا ارتفاع كل منها يمينا ويسارا وكأني ظابط مراقبة في برج أرضي مطلوب منه أن يراقب ويوجه الطائرات حتي لا تضل إحداها الطريق أو تخترق أخري منطقة السحاب أو تصطدم ببعضها البعض خاصة بعد أن يتوه الشباب حملة الطائرات في شوارع الأقصر حيث يتخذ كل منهم من شارعه منصة لإطلاق طائرته. وقبل أن يحل الظلام تبدأ مرحلة العودة التي كنت استمتع بها أكثر من مرحلة الانطلاق فهي تظهر مهارة كل قائد طائرة في لم الحبل تدريجيا وبرفق حتي لا ينقطع الحبل ويفقد السيطرة علي طائرته خاصة لو ارتفعت فوق حد السيطرة فكم من طائرات فقدت وكم من طائرات تمزقت وصاحبها ينتظرها علي الأرض في حسرة شديدة. لسبب لا أعرفه حتي الآن رفض والدي الحاج أحمد مبارك رحمه الله - والذي لم يرفض لي طلبا في يوم - أن أمتلك طائرة ورقية، أذكر أني ألححت علي أمي رحمها الله لتضغط عليه كالعادة عندما كان يؤخر إجابة طلب ما لكنه أصر علي الرفض، وقتها أخذنا أنا وأمي نخمن ما الذي يجعله يرفض وبشدة، وبعد أن أعيتنا الحيل أقنعت نفسي أن الحاج ربما يري أن تلك اللعبة لا تليق »بولاد الناس» وهو ما تأكد لي عندما همست لي أمي في أذني قائلة: »أبوك بيقول ما يصحش الواد يمسك طيارة ويفضل يجري وراها في الشوارع»! والغريب أنه رغم تطور صناعة الطائرات الورقية والتحكم فيها بالريموت كنترول فيما بعد إلا أن حلمي كان منصبا علي ذلك النوع الذي طالما حلمت به ولم أتمكن من تحقيقه فيما بعد خاصة أنه ولا واحدة من بناتي تهوي إطلاق الطائرات الورقية وإلا كنت حققت حلمي من خلالها. كبرت وركبت كل أنواع الطائرات كبيرها وصغيرها، طرت عاليا فوق السحاب وعرفت الله في كل لحظة ترتفع فيها الطائرة أو تهبط، سافرت شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، رأيت الشمس تشرق من وراء الجبل وتابعتها وهي تغرب في المحيط تناولت إفطاري كثيرا فوق أفريقيا وحان وقت الغداء أكثر من مرة في أوروبا وتعشيت مرات عند آسيا وفي الأمريكتين، صليت الظهر فوق منتصف البحر الأحمر والعصر قبل أن تغادر الطائرة حدود البحر المتوسط وسجدت جامعا المغرب والعشاء علي سحابة فوق المحيط الأطلنطي، ركبت الجامبو والبوينج والإيرباص وكل ما توصلت إليه مصانع الطائرات في العالم ومع كل ذلك مازلت أحلم بذلك الحلم القديم الجديد، أن أمتلك يوما ما »طيارة ورق» !