»ماذا يعني تجديد الخطاب الديني؟ مر أكثر من عامين منذ دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي التي أطلقها لتجديد الخطاب الديني، وعلي الرغم من ذلك فإن المفهوم ملتبث في أذهان الكثيرين وليس هناك اتفاق علي معني التجديد المقصود. هل كان الرئيس يقصد نشر معاني التسامح والسلام التي جاء بها الإسلام للعالم بطرق أكثر فعالية وإبراز الصورة الحقيقية لدين أرسله الله مكملا لرسالات السماء؟..هل كان يقصد أن تنتفض المؤسسة الدينية مجددة أدواتها لتنخرط في المجتمع مؤكدة علي قيم العمل والإنتاج والنهضة؟ هل كان يقصد تجديد الفقه ليواكب القضايا المعاصرة باجتهادات تحل الكثير من المسائل الخلافية العالقة؟ هل كان يقصد أن تساعده المؤسسة الدينية في السيطرة علي أوضاع ليس للدين فيها يد؟ أم تحميلها وحدها مسئولية وطن تهاجمه الأخطار؟..مفهوم التجديد لايزال ملتبسا ومختلفا ففهم الأزهريين يختلف عن فهم من يسيطرون علي المنابر- ولو شكليا- »الأوقاف» وهو يختلف عن فهم »المثقفين» أصحاب الصوت العالي ممن يسيطرون علي منابر الإعلام وخاصة القنوات الفضائية ويا ليت جميعهم يتفقون علي كلمة سواء للبدء في هذا الطريق الصعب والمهم والضروري..الملف التالي يستعرض معني التجديد كما يفهمه علماء الأزهر والأوقاف بجانب المثقفين. يري الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الأزهر أن التجديد مهم وضروري وخاصة لازمة من خواص دين الإسلام، نبَّه عليها النبي في قوله الشريف: »إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَي رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، وهذا هو دليل النقل علي وجوب التجديد في الدين، أما دليل العقل فهو أنَّنا إذا سَلَّمنا أن رسالة الإسلام رسالة عامَّة للنَّاس جميعًا، وأنها باقية وصالحة لكل زمان ومكان، وأن النُّصوص محدودة والحادثات لا محدودة.. فبالضَّرورة لا مفرَّ لك من إقرار فرضية التَّجديد آلة محتَّمة لاستكشاف حُكم الله في هذه الحوادث. ويري أن التجديد الذي ننتظره ينبغي أن يسير في خطين متوازيين: خط ينطلق فيه من القرآن والسنة أولًا، وبشكل أساس، ثم مما يتناسب ومفاهيم العصر من كنوز التراث بعد ذلك. وليس المطلوب - بطبيعة الحال- خطابًا شموليًا لا تتعدد فيه الآراء ولا وجهات النظر، فمثل هذا الخطاب لم يعرفه الإسلام في أي عصر من عصور الازدهار أو الضعف، وإنما المطلوب خطاب خال من »الصراع» ونفي الآخر واحتكار الحقيقة في مذهب، ومصادرتها عن مذهب آخر مماثل. وخط مواز ننفتح فيه علي الآخرين بهدف استكشاف عناصر التقاء يمكن توظيفها في تشكيل إطار ثقافي عام يتصالح فيه الجميع، ويبحثون فيه معًا عن صيغة وسطي للتغلب علي المرض المزمن الذي يستنزف طاقة أي تجديد واعد، ويقف لنجاحه بالمرصاد، وأعني به: الانقسام التقليدي إزاء »التراث والحداثة» إلي: تيار متشبث بالتراث كما هو، وتيار متغرب يدير ظهره للتراث، ثم تيارٍ إصلاحي خافت الصوت لا يكاد يبين. ويؤكد أن هذا الاختلاف - في حد ذاته - أمر طبيعي وظاهرة مقبولة، لكنه ليس مقبولًا ولا طبيعيًا أن يتحول الموقف كلُّه من مواجهة خارجية إلي صراع داخلي يترك الساحة خالية لفرسان أجانب يسحقون الجميع. وقد لاحظنا –والكلام علي لسانه- في تجارب القرن الماضي أن أصحاب التيار الأول كانوا يراهنون علي أن »بالإمكان العيش في إطار التقليد الضيق، الموروث عن السلف، وإيصاد الأبواب في وجه أمواج الحضارة الغربية وثقافتها المتدفقة»غير أنهم ما لبثوا أن تراجعوا دون أن يهيئوا المجتمع لأن يتعامل مع المتغيرات العالمية بأسلوب مدروس، وكانت النتيجة أن أصبح المجتمع أعزل أمام ثقافة غربية مكتسحة، والشيء نفسه يمكن أن يقال علي »المتغربين»، الذين أداروا ظهرهم للتراث، ولم يجدوا في الاستهزاء به والسخرية منه حرجًا ولا حياء، وأعلنوا مقاطعة التراث شرطًا لا مفر منه في حداثة التجديد والإصلاح. وكانت النتيجة أن أدارت الأمة ظهورها لهم، بعد ما تبينت أنهم لا يعبرون عن آلامها وآمالها، وأنهم يغردون وحدهم خارج السرب، هؤلاء خسروا المعركة أيضًا، ولم يحلوا مشكلة واحدة من مشكلات المجتمع، إن لم نقل: زادوا الأمور ظلامًا علي ظلام..أما التيار الإصلاحي »الوَسَطي» فإننا نحسبه التيار المؤهل لحمل الأمانة، والجدير بمهمة »التجديد» الحقيقي، الذي تتطلع إليه الأمة، وهو – وحده - القادر علي تجديد الدين بعيدًا عن إلغائه أو تشويهه، ولكن شريطة أن يتفادي الصراع الذي يستنزف طاقته من اليمين ومن اليسار. ويري أنه يجب إعداد قائمة إحصائية بكبريات القضايا التي تطرح نفسها علي السَّاحة الآن وأن تكون الأولوية للقضايا التي شكَّلت مبادئ اعتقادية عند جماعات التكفير والعنف والإرهاب المسلح، وهي علي سبيل المثال لا الحصر قضايا: الجهاد – الخلافة – التكفير – الولاء والبراء – تقسيم المعمورة وغيرها. ويري أن يكون الاجتهاد في توضيح هذه المسائل اجتهادًا جماعيًّا وليس فرديًّا، فالاجتهاد الفردي فات أوانه، ولَمْ يَعُد مُمْكِنًا الآن لتعدُّد الاختصاصات العلمية، وتشابك القضايا بين علوم عدة. وبوحي من هذا المنهج التعددي اتسعت أروقة الأزهر وكلياته – ومازالت تتسع ليوم الناس هذا - لدراسة المذاهب الفقهية السُّنيَّة وغير السُّنيَّة دراسة علمية، لا انتقاص فيها من مذهب ولا إغضاء من شأنه أو شأن أئمته، وبنفس هذا المنظور الذي يتسع للرأي والرأي الآخر، بل الآراء الأخري، درَّس الأزهر للدنيا كلها مذاهب علم الكلام والأصول، وكل علوم التراث النقلي والعقلي».