الإعلامية نهال كمال اكتشفت هذه الأوراق التي كتبها زوجها الراحل عبدالرحمن الأبنودي واختصت بها »الأخبار» في ذكري وفاته الثانية التي تحل اليوم. كنا إذا عملنا نغني وإذا تعطلنا نغني. إذا اجتمعنا نغني. إذا انفرد كل منا بنفسه ولم يكن من حوله غناء يغني. كان الغناء دافئا حميما لا يفرق بين أحد وأحد. وهبنا الطلاقة والبيان والقدرة علي الانشاد كما اعطتنا الحقول المتسعة الغالية موهبة علو الصوت وتدريب اللسان علي الاداء المشبع بالعواطف والذي أفادني كثيرا في ادائي الشعري فيما بعد حين نزلت إلي المدن وخالطت منتدياتها الأدبية ومحافلها الشعرية اكتشفت أن الغناء القديم هيأني للانطلاق فانطلقت. فيما بعد حين ذهبت إلي المدينة الإقليمية - قنا - لأعيش فيها والتحقت بالمدارس استمعت إلي »الراديو» الذي لم نكن نملك مثله في ذلك الوقت، ربما لأسباب اقتصادية، وربما لأسباب دينية فقد كان والدي شيخا: رجل دين يؤم البشر في الصلاة واختار أن يكون إماما لسجن »قنا»، وهو سجن كبير مشهور علي مستوي سجون مصر. كان أبي - لأنه فقير قديم - يتعاطف شديدا مع المساجين الغلابة. بل كان أحيانا يهرب رسائلهم إلي ذويهم ويحل مشاكلهم الاجتماعية خارج بوابة السجن. المهم، لم يكن لدينا راديو في منزلنا منزل »الشيخ الأبنودي» فقد كان الرجل - إضافة إلي ذلك »مأذونا شرعيا» يزوج ويطلق ومنغمس في هموم الناس الاجتماعية وتلافيفها، وكان موثوقا به من جانبهم فكانوا يعمرون المنزل بصورة دائمة جماعات جماعات. كان أيضا ليس »مدرس لغة عربية» فحسب. بل كان عالم لغة، وقبل ذلك وبعد ذلك كان شاعرا متينا ومحيطا بكل مقومات القصيدةالعربية التقليدية لكأنه منفلت من خيمة عربية قديمة وسقط خطأ في زماننا. حين خرجت من القرية وذهبت إليه في المدينة مع إخوتي السبعة فوجئت بأن عالم أبي يختلف عن عالمنا كثيرا. بل إنه لا تشابه بين العالمين علي الاطلاق وكأن »الشيخ الأبنودي» ليس من أبنود. كثيرون يتعجبون حين أقص عن طفولتي الفقيرة بينما أذكر أني حين كبرت وجدت أن لوالدي ديوانين منشورين بالغي الصعوبة والتعقيد والدراية والعمق أولهما »بردة» في مدح رسول الله عليه الصلاة والسلام علي غرار »بردة الإمام البوصيري» أعجبني منها ذات وقت مبكر جدا بيت يقول : وفي فؤادي بذور الحب قد نَبَتَتْ مذكان سبابتي في المهد ثدي فمي ولا أدري كيف تملكتني - أيامها - فكرة أن هذا البيت كأنه هارب من أغنية أبنودية قديمة من تلك الأغنيات التي كانت تغمر الحقول وتنبت كالأشجار الخضراء علي ضفاف النهر. أما الديوان الثاني للشيخ الأبنودي - وتسمية الديوان هنا مجازية لأن ليس لها بديل - فهو ألفية في النحو العربي وقواعد اللغة العربية صاغ الوالد خلالها قوانين النحو شعرا، أو قل »نظما» علي نسق »ألفية بن مالك» في النحو!! أحسست منذها أن اهتماماتنا متناقضة، وأنني أعشق شعرا آخر، وأنني أنتمي لغناء أبنود، وإنشاد أهلها الفقراء رجالا ونساء وأطفالا. كنا نعيش - فقراء - حياة القرية الفقيرة الغنية بتراثها، وكأن الوالد يعيش في المدينة الكبيرة يصعد سلمات الشهرة والعلم ، وحين اجتمع شملنا فيما بعد. كنا أشبه بمخلوقين جاءا من عالمين بعيدين مختلفين كل الاختلاف. لم يكن ممكنا والحال هكذا، أن يضع »الشيخ الأبنودي» جهاز راديو في المنزل ليزعق بالاغنيات والتمثيليات »الإباحية» ليفسد أهل البيت، لذلك لم أكن أعلم عن أغنيات الراديو شيئا، وإنما عشت علي زاد أغنيات أبنود أقتاتها وقد ارتبطت عندي بأغلي ما في طفولتي: تعلم العوم في النهر ،وطلوع النخل، ورعي الأغنام، واللعب مع الأتراب، في الليالي المقمرة حيث لم يكن هناك كهرباء في ذلك الزمان الذي رغم قربه نسبيا يبدو كأنه كان منذ قرون وقرون كنت بدأت أكبر لأدخل في مرحلة الصبا وكهوام الجحور حين يجذبها الدفء فتغادر جحورها بدأت أخرج إلي الشارع الكبير. كان الوالد قد أصبح عالما مرموقا يقدم لهم الفتاوي ويحل مشكلاتهم الدينية الخاصة بأيمان الطلاق التي يطلقونها عمال علي بطال في لحظات تأججهم تحت لهيب القيظ الصعيدي فكان ينالنا من ذلك بعض الاحترام، وكان بعض الناس يسعدون إذا ما جالستهم أو أحد إخوتي فنحن ابناء الشيخ وكان هناك »عم رفاعي عمر» تاجر فاكهة جملة وقطاعي، له محل كبير علي ناصية الشارع الكبير يضع أمامه »دكة» خشبية تعودت الجلوس عليها، وشيئا فشيئا بدأت أصبح جزءا لا يتجزأ من المكان أرقب الرجل - القومسيونجي - وهو يدلل علي الفاكهة. كانت له مساعد من أحب الشباب إلي قلبي في تلك المدينة التي كانت عاطفتي نحوها فاترة وذاكرتي مسافرة اسمه »محمد حمدتو» حفظ كل غناء الراديو. ذلك ان لدكان »عم رفاعي عمر» في »شارع الصهريج» بقنا راديو. ربما هو الذي جندني وجعلني جزءا من المكان، وهو الذي أتاح لي بصورة حقيقية الإطلاع علي الغناء الذي كان أيامها ينبعث من »راديو الحكومة»!! يوم مولدي تأتي ذكري مولدي هذا العام في الربيع كالعادة، الورود تحرض براعمها علي التفتح، والبرتقال أرسل بنداء رائحة ازهاره النفاذة إلي النحل الذي يتعاقب علي الاشجار جماعة بعد جماعة. أما أنا فعلي الرغم من شباب الطبيعة الفائر فإنني أقابلها بالوهن الفاتر . أعتقد أنه الربيع الأخير، ولابد أن أشد رحيقه إلي آخر نفس ، أحتك بالطبيعة واتحرش بأشجارها وأتمرغ في روائح أزهارها وورودها العفية، مستمدا منها طاقة لا أملكها وكل ما أملكه أن اجتمع واسرتي وبعض من أعز الاصدقاء. »برمهات» شهر القمح و»الفريك» شهر آلام المسيح »وأحد الخوص» و »رعرعرة أيوب» شهر نعلق علي الأبواب سنابل القمح الخضراء »المشبوكة» شهر »البلابيصا» ومص القصب، و »أكل القلقاس» ثم شم النسيم الذي يتوج كل هذا الشهر الاحتفالي، وأيا كانت كل الطقوس قبطية، فإن شم النسيم فرعوني لا شك بفسيخه وملانيته وبيضه الملون وخضرته. في قلب كل ذلك »وُلدنا: »عمار الشريعي» و »علي الحجار» وكثيرون منهم أنا. ولا أدري إن كان لذلك صلة بمصريتنا الشديدة من عدمه.