هل هي مجرد مصادفة عمياء أن يُقتَلَ مؤلِفا أهم كتابين عن مصر وشخصيتها وتكوينها وتاريخها وإمكاناتها، بنفس الطريقة الغامضة التي لم تُكشَف ملابساتها حتي الآن ؟!!.. أتحدث عن الدكتور جمال حمدان صاحب سِفر »شخصية مصر» والذي عُثر علي جثته داخل شقته بالدقي في أبريل 1993.. والدكتور صبحي وحيدة مؤلف كتاب »في أصول المسألة المصرية» والذي قُتل طعناً بسكين أمام مسكنه بعمارة الإيموبيليا بالقاهرة عام 1956.. تَفَجَرَ في ذهني ذلك السؤال فور الإنتهاء من إعادة قراءة كتاب صبحي وحيدة الذي وصفه المفكر الراحل أنور عبد الملك بأنه » كتاب فاتح بكل معني الكلمة دخل في أعماق وجدان عشرات وربما مئات الآلاف من المصريين، ومازال السواد الأعظم من المثقفين يجهلون اسمه وعمله أو لعلهم يتجاهلون».. وهي إشارة إلي حجم التوزيع الهائل لهذا الكتاب العمدة فور صدور طبعته الأولي عام 1950 إذ وُزعت منه 80 ألف نسخة!!.. ثم طَبَعَه الحاج مدبولي مطلع الثمانينات قبل أن يُطبع مؤخراً ضمن مشروع مكتبة الأسرة.. نعم.. كثير منا يعرفون المفكر الفذ جمال حمدان ومساهماته المشهودة في إثراء حياتنا الثقافية، ولكن القليلين جداً يعرفون صبحي وحيدة وجهوده الفكرية ودوره في تطوير الاقتصاد الوطني من خلال عمله سكرتيراً عاماً لاتحاد الصناعات المصرية قبل وبعد ثورة يوليو 1952.. غير أن قَتَلَة جمال حمدان وصبحي وحيدة لم يكونوا، رغم بشاعة وفظاعة فعلتهم، أقل جُرماً وقسوة من المسئولين عن التعليم في بلادنا الذين اغتالوا هذين العالِمين الاستثناءين، مُجدداً بالتقاعس المُريب عن تدريس كتابيهما بالغي الأهمية بمراحل التعليم المختلفة!!.. وما أحوجنا في مرحلة التحول والتيه المعقدة التي نمر بها الآن إلي قراءة هذين الكتابين وتدريسهما للأجيال الصاعدة لزرع الثقة في وجدان الجماهير وإعادة الأمل إلي شباب يكاد يكفر بالوطن ويتحين الفرصة للهرب منه ولو بالموت غرقاً.. يقول الدكتور أنور عبد الملك »حان الوقت بعد طول غياب أو تغييب أن تدخل معاني الكتاب الرائد - في أصول المسألة المصرية - بيوت المصريين.. عقولهم وقلوبهم.. عندئذ سوف يتساءل شباب مصر في ذهول وإصرار : أهكذا كنا ؟.. ماذا حدث؟.. ثم كيف يمكن مواصلة المسيرة بعد أن نُفيق؟».. ورغم تأليف الكتاب منذ ما يربو علي 70 عاماً سيفاجأ مَن يسعده الحظ بقراءته أن صبحي وحيدة لم يكتفِ بالغوص في أعماق شخصية وتاريخ مصر عبر العصور وإلقاء الضوء علي المعدن الأصيل لهذه الأمة المنتجة للثروة والمبدعة للحضارة، ولكنه تجاوز ذلك إلي تفنيد كل الترهات والأكاذيب التي روج لها المستعمرون والمستشرقون ورددها بعض المصريين والعرب كالببغاوات عن عقد نقص مزعومة وميل فطري لدي المصريين للخنوع والقابلية للاستعباد!!.. فضلاً عن رسمه خريطة للنهوض بمصر والوصول بها إلي المكانة والمكان اللذين يليقان بها.. واللافِت أنها خريطة لاتزال صالحة حتي اليوم وخاصة أنها تركز علي دور النخبة الحاكمة لبلوغ »طريق السلامة».. يقول صبحي وحيدة في ختام كتابه »إن كان الفرق بين مصر والبلاد الأخري هو الفرق بين مستوي عامة المصريين وعامة الشعوب الأخري، فإن الفرق بين السرعة التي نسير بها لتغطية هذه الفروق والسرعة التي تسير بها هذه الشعوب هو إلي حد بعيد الفرق بين حكامنا وحكامهم.. وقد لا يستطيع المصري البسيط أن يتثقف ويبلغ بنفسه مستوي أقرانه في الغرب ويقوم بواجبه كاملا، ولكن الطبقة الحاكمة المصرية تملك وسائل ذلك».. ولا يبقي إلا أن نتمني أن يقرأ المصريون وخاصة الطبقة الحاكمة هذين الكتابين وغيرهما بحثاً عن مصر القوية القادرة، لأن القراءة والثقافة والتعليم هي طريقنا الأوحد والأقرب إلي النهضة التي نتمناها لهذا البلد العظيم..