جلست مع مجدي العمروسي نتذكّر بعض ما حدث في أيام عبد الحليم حافظ الأخيرة لنحاول أن نعرف من خلال قراءة الأحداث والتفاصيل الصغيرة إذا كان الفتي الأسمر النحيل الوجه والقوام كان يحسّ بدنو أجله، أو يشعر في أعماقه بأن النهاية الحزينة قد اقتربت، إن ما يذكره الدكتور شاكر سرور، الطبيب الخاص لعبد الحليم هو أنه في الخامس والعشرين من شهر مارس 1977 دخل لغرفة العندليب بالمستشفي وقال له : " أنا مطمئن الآن لأنك في رعاية أطباء ممتازين.. فدعني أسافر للقاهرة لأنني مرتبط بموعد هامّ 31 مارس وإذا شئت سأعود إليك بعد هذا التاريخ"، رد عبد الحليم بصوت هادئ: " انتظر كام يوم يا دكتور شاكر.. أوعدك أنك هتكون في القاهرة يوم 31 مارس"،وانتظر د.شاكر، ونفّذ العندليب وعده، عاد للقاهرة 31 مارس في صندوق محمول علي الأعناق، فهل كان عنده احساس مسبق بالنهاية؟ ! مجدي العمروسي يقول: " كان عبد الحليم يحيّرني منذ اللحظة التي ركب فيها الطائرة من القاهرة إلي لندن، تصرفاته كانت مزيجاً من التفاؤل والتشاؤم، كان يبدر منه ما يدل علي إحساسه باقتراب النهاية، ثم يبدر منه ما يشير إلي تصوّره بأن هذه النهاية بعيدة جداً!! ". سألت مجدي العمروسي: "هل كنت معه عندما غادر القاهرة في آخر رحلة؟ ". أجاب: " لا.. كنت مضطراً للسفر إلي الخليج العربي لأعمال عاجلة تتعلّق بشركة " صوت الفن"، ووعدته بأن ألحق به إلي لندن، سافر عبد الحليم منتصف يناير 1977، وعدت إلي القاهرة أواخر الشهر لأفاجأ بالموسيقار محمد عبد الوهاب ترك لي رسالة شفهية في البيت يشدّد فيها علي أن أكلّمه حال وصولي، وفي أية ساعة، هنا أدركت أنّ الموسيقار الكبير يريدني لأمر خطير،فطلبته وبلا مقدّمات قال لي " عبد الحليم اتصل بك من لندن، وحالته الصحية مش كويّسة، وأنا أرسلت زوجتي لتكون بجانبه وهو يريدك أن تسافر له بسرعة، ومعك طبيبه الدكتور شاكر سرور، لأن الأطباء الإنجليز يريدون أن يستوضحوا منه بعض الأمور". كانت مفاجأة لمجدي العمروسي أن يعرف أنّ عبد الحليم حافظ يقيم في المستشفي، لأن العندليب كان مسافراً للاستجمام، وإجراء بعض التحاليل كما اعتاد كل عام، فما الذي أوصله إلي المستشفي.. هل أصيب بنزيف؟ هل فاجأته أزمة؟. كان عبد الحليم يقيم في الشقة التي اشتراها في لندن ومعه شقيقته علية، وابن خالته شحاتة، وذات يوم أراد العندليب ارتداء الجلابية البيضاء فإذا به يكتشف أنها ضاقت عليه، وتطلّع إلي بطنه فوجده منتفخاً، التفت إلي شقيقته وقال لها: " شايفة يا علية.. الجلابية مش قادرة تخش "، فقالت له " يمكن يا حليم سمنت شوية"، فضحك وقال " لا.. دي علامة سيّئة.. معناها أن بطني مليانة ميّه.. ودي حاجة وحشة معناها إني لازم أقعد في المستشفي من قبيل الاحتياط "، ولهذا عاد عبد الحليم حافظ إلي غرفته في مستشفي كنجز كوليدج واعتبر نفسه هذه المرة مريضاً، وليس زائراً يريد أن يجري التحاليل ليطمئن علي كبده، وجاء إليه مجدي العمروسي، وعانقه عبد الحليم حافظ بشوق ولهفة وحرارة، وقال له مجدي معاتباً " إيه يا أخي.. خضّتني.. افتكرت حالتك خطيرة، لكن والحمد لله ها أنا أراك مشرقاً، حلواً ومعافي"، ردّ عبد الحليم " الحمد لله.. أنا بس عندي شوية انفلونزا.. ولكن برضُه عاوز اتكلّم معاك حديث خاص.. ولوحدنا"، خرج مَن كان في الغرفة ومدَّ عبد الحليم حافظ يده إلي جيب جلابيته وأخرج منها ورقة وناولها لمجدي العمروسي وقال له" خذ.. اقرأ هذه الورقة ". آثر العمروسي أن يترك الورقة مطوية ويضعها في جيبه، فقال له عبد الحليم " اقرأ الورقة يا مجدي"، فقال له "حابقي أقراها بعدين "، وألحّ عبد الحليم " لا.. اقرأها دلوقت "، اضطر مجدي إلي قراءة الورقة، فإذا هي وصية كتبها عبد الحليم لتُنفّذ بعد مماته، احتفظ العمروسي بالوصية وهو يتساءل بينه وبين نفسه : لماذا الآن فكّر عبد الحليم حافظ بكتابة وصيته، وهو الذي لم يفعل ذلك من قبل، هل يشعر الآن بالخطر، هل في أعماقه إحساس باقتراب النهاية ؟ ويقول مجدي العمروسي " لا أظن..إنّ العندليب الأسمر كان يتصرّف أحياناً بالشكل الذي يدل علي استبعاده التام للخطر، مثلاً.. طلب معلومات وصوراً لسيارة "كاديلاك" كان يرغب في شرائها، ولم يكتفِ بالتحدّث عن هذه الرغبة، وإنما أخذ يتصل تليفونياً بوكيل الشركة في لندن، ويتفاوض معه، ويساومه ويحدّد له اللون الذي يريده للسيارة ويتفق معه علي موعد تسلّمه للسيارة، وأيضاً، اشتري قبل دخوله المستشفي ستائر جديدة لغرفة نومه وأرسلها إلي القاهرة، وكان بين يوم وآخر يتصل ببيته ويسأل إذا كان قد تمّ تركيب الستائر التي أرسلها، وأيضاً، اشتري من لندن كاميرا تليفزيونية لتركيبها علي مدخل بيته في "الزمالك" لكي يتمكّن وهو في سريره من رؤية الذين يدخلون البيت علي شاشة تليفزيونية مثبتة أمام، وكل هذا يدل علي أنّ العندليب لم يكن يفكّر بأنه يعيش أيامه الأخيرة، فمتي تغيّر كل شئ، متي بدأ اليأس يتسرّب إلي نفس عبد الحليم حافظ ويمحو عن ملامحه بشائر الأمل، انه اقترب من اليأس بمجرّد أن طرح إخصائي الكبد الدكتور روجرز عليه فكرة تغيير كبده وزراعة كبد جديد مكانه، وعبد الحليم رفض واعتبرها مجرّد مغامرة من طبيبه الخاص إذا أخفقت فإن الطبيب لن يخسر شيئاً، وإذا نجحت فإنه سيكسب شهرة لا مثيل لها في العالم العربي. الأطباء أعطوا تعليماتهم بألاّ يرد حليم علي التليفون، لكنه رفض وأمسك بسمّاعة التليفون يتحدّث لجميع مَن يستطيع الاتصال بهم، كان يخالف التعليمات بالقيام من سريره لتنسيق وترتيب سلال الزهورالتي كانت تصله، معني ذلك أنه يريد أن يشغل نفسه بأي شئ لكي لا يخلو إلي نفسه ويفكر في النهاية، ومرة.. وجاء مجدي ذات مرة للمستشفي في الثامنة صباحاً ولم يجد عبد الحليم في سريره، بحث عنه فوجده في بهو المستشفي يجلس علي مقعد ويخبّئ وجهه براحتيه، اقترب منه،أمسك بيديه وأزاحهما عن وجهه، فرأي الدموع تتدفّق غزيرة من عينيه، تغلّب العندليب علي مظهر الضعف واستعاد ابتسامته، وتكرّر الموقف، وعبد الحليم يبدو انه كان يعرف أن النهاية علي الأبواب، وفوجئ مجدي العمروسي في السابع والعشرين من مارس بحليم يقول له " تذاكر العودة اللي معانا علي أية شركة؟"، فقال مجدي"زي العادة.. علي الخطوط الجوية البريطانية "، ردّ عبد الحليم "غيّر التذاكر.. المرة دي عاوز أسافر علي مصر للطيران "، يوم 30 مارس كان عادياً جداً في مستشفي "كنجز كوليدج"،غرفة عبد الحليم لا جديد فيها، زهور هنا وهناك، عبد الحليم غسل شعره ثم جفّفه بالسشوار وأخذ مقصاً صغيراً وراح يقلّم أظافره، وفجأة حدث النزيف الذي كان علامة بداية النهاية، في المساء سكت صوت عبد الحليم حافظ إلي الأبد، وكما أراد.. عاد إلي القاهرة علي متن الطائرة المصرية جثمانا في صندوق، ومن يوم رحيله ودنيا الغناء تعيش في حزن مقيم.