ليس أخطر علي مستقبل الوطن من إشاعة الفوضي ورهن الأمان والنهضة بذلك البديل المخيف الذي ظل النظام البائد يلوح به كلما همت القوي الوطنية للتحرك والتكاتف من أجل التغيير، وكأني أري نفس الصورة أمامي من جديد لعهود ظلام، أجهضت كل مشروع للمستقبل يمكن أن يأخذنا إلي مصر الجديدة العظيمة التي تقود العالم إلي مناطق النور وتفتح أمامه سبل الأمل الذي افتقدناه كثيراً في عالم اليوم ومدنيته المخادعة. لقد مرت مصر عبر عقودها الثلاثة الماضية بوجه خاص بما يشبه حالة الهمود الذي يصيب الجسد والغياب الذي يصيب الروح فلا الجسد يحيا ولا الروح تريد أن تعود إليه مرة أخري، انفصام حقيقي بين الشخصية التاريخية للمصري بما اكتسبه علي طوال الزمن من صفات رائعة تتحدي المستحيل وتقفز فوق أية صعاب، بل تحول الكارثة إلي أمل وضّاح تسير به إلي الأمام، وفي العصر الحديث، نهضت مصر من تحت نير وجثوم أعدائها من الخارج والداخل، وتقدمت في مطلع القرن التاسع عشر بقيادة محمد علي »الألباني« الذي اكتسب شرعيته من الشعب، وكانت علي وشك أن تصبح دولة عظمي، لولا المؤامرات التي دُبرت بليل من تحالف غربي مشين ضد الأسطول المصري وضد مشروع النهضة الذي أعاد لمصر مكانتها بعد أن كانت مطمعاً يتصارع عليه الغرب، ومن نفس الموقف، قاد عبدالناصر مشروعاً يقترب كثيراً من مشروع محمد علي واستمد شعرعيته أيضاً من الشعب لصدق نواياه وجدية حلمه الذي تحقق بعضه في إيجاد شعبية جارفة لم يكن يرضي عنها حكام كثيرون من العرب في ذلك الوقت، وتآمر الغرب بنفس المنهج لوقف هذا المشروع النهضوي العظيم مستغلين الأخطاء والصراعات التي كانت دائرة في الداخل المصري والبيني العربي، وتم احتلال القدس وسيناء وهذان الرمزان يكفيان لإجهاض المشروع الثاني العظيم لمصر والأمة العربية، وانتهي حلم محمد علي وحلم عبدالناصر بهذه المأساة التي عاشتها مصر طيلة حكم مبارك الذي أحدث فراغاً علي شتي الأصعدة، لتتحول مصر إلي ما يشبه الجسد الميت، محنطاً تريد أن ترجع إليه روحه المطاردة، ولا يريد الواقف علي باب سجنها الكبير أن تعود إليه ولو بعضها، فماذا حدث ومن الذي اكتشف هذه الطريقة الأيسر والأسرع لوأد أية محاولة أخري كالتي كانت بالأمس حتي ولو بأخطائها وخطاياها، إنهم لا يريدون المحاولة أن تجري بها الهمم، وعلي هذه الهمم أن تغادر وطنها وتترك أرضها بغير إرادة ترويها وتبعثها للحياة من جديد. وتحت هذه اللافتة الكبيرة الواسعة المطاطة، استخدم مبارك »خيار السلام« شعاراً لمرحلته الباهتة، ووضعه مقابل كل ما يجب عمله نحو الوطن من واجب ضروري لنهضته وعزته، وكانت التنازلات التي علي الشعب المصري أن يدفعها فادحة، فوق أي تصور وأي احتمال، وكنت أتساءل إلي متي هذا الصبر، وإلي متي هذا الذل والعار، ولا أحد ينعم بما تنعم به اسرائيل من حماية كان نظام مبارك أحد حراسها ومُمديها بأسباب التقدم والنعيم، فعلي طول أعوامه الثلاثين، استطاع مبارك وأعوانه في الداخل والخارج أن يحولوا مصر إلي دولة ثانوية ينحصر دورها الاقليمي والدولي في تقديم بعض التسهيلات والوساطة في العمليات القذرة التي يرعاها الغرب وتصب في صالح اسرائيل وبقائها وتمددها وانغراسها في أحشاء الأرض والشعوب العربية، لقد صار مبارك أكبر من مصر في واقع الأمر، فهو الرجل الذي باسمه يتم كل شيء في البلاد، انتزع كل العناوين العظيمة التي حفل بها تاريخ مصر الحديث ليضع اسمه واسم زوجته مكانها، وكان آخرها يوم أن صنع له بعض المثقفين المدجنين الذين فضحتهم الأحداث وكشفت الثورة عن عواراتهم صنعوا له جائزة ثقافية وعلمية أكبر من جائزة الدولة ليعلنوا أن مبارك أكبر من مصر ومن نيلها، فرط هذا الحاكم في أغلي مكتسبات الشعب عبر الأزمان، من روح تمنيت يوماً أن تمس الجسد الأسير لدي مبارك وحاشيته، فصار الغناء والفن والأدب والشعر تحت إمرته، له وحده وليس لغيره، حتي ولو كانت مصر الغالية، إن الروح التي هربت بعيداً عن جسدها في أرض بلادي كانت تلعن هذه الأفاعيل التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً من دجل وكذب وتلفيق كما عرفته علي أيدي »هامانات« مبارك، خاصة من المثقفين وأصحاب الكلمة الذين جعلوه فوق مصر وفوق التاريخ، وكان من الممكن أن تنبعث من هذه الركام الروح الغائبة لولا هذه الجوقة التي خانت ضمير الشعب، واعتادت أن تكتب وتغني باسمه دون أن يمنحها واحد من الشعب هذا التفويض. وأصبح الفراغ الذي نعيشه موحشاً ومؤلماً إلي درجة اليأس والقنوط، فكلما ارتفع صوت بين هذا الغثاء بكلمة حق، اختفي الصوت وصاحبه في لحظات، ولا أحد يستطيع أن يجد له طريقاً غير طريق واحد في ذات القطيع، وهنا لا يكون أمام الشرفاء إلا الانزواء أو الخروج من الوطن بعيداً عن أيدي التنكيل والعبث الذي ذاقه كل من سولت له نفسه أن يخرج علي قطيع مبارك، لقد كانت مساحات شاسعة من الفراغ والخواء ليس مسموحاً لأحد أن يجادل عن حلمه أو حلم وطنه، وليس مقدراً إلا ما يمليه القائد والزعيم الأوحد القاهر فوق شعبه، فتراه رئيس الجمهورية »المزرعة« ورئيس القوات المسلحة ورئيس الشرطة ورئيس الحزب الحاكم ورئيس كل شيء وأي شيء، وتري من تحته نفس الوجوه التي رأيناها في خلفية المشهد يرأسون هم بالتبعية كل شيء وأي شيء، ثلاثة هم اليوم، لم يقدم أحد منهم لسؤاله عن فساده السياسي وخداعه للشعب طيلة الحقب الماضية، وكأنهم مازالوا ثلاثتهم يعبثون بمصر وبشعبها بنفس طريقتهم المثلي السالفة، وكأنهم لن يكفّوا حتي يحرقوا مصر بمن فيها ومن علي أرضها ماداموا خارج اللعبة.. من ينقذ مصر من الردة وفلولها التي تريد أن تحول حياة المصريين إلي جحيم، عقاباً لهم علي القيام بالثورة ومؤازرتها حتي الآن.