كثيرا ً ما يطرح هذا السؤال علي موائد المثقفين وفي مؤتمراتهم بحسبانه حجر الزاوية لبناء المستقبل. والحق أنه سؤال بقدر ما يبدو علي السطح مجرد استفسار بريء ، بقدر ما يشير إلي واقع ملتبس تتناوشه رؤيتان ، الأولي يتبناها الحزب الحاكم وخلاصتها أن البلاد تتقدم بمعايير عصرية لا يجوز إنكارها، حيث تم استنقاذ الاقتصاد الوطني من ركود جاء من احتكار الدولة لمعظم وسائل الإنتاج، وذلك بعد معركة صعبة بدأها الرئيس السادات بين قوي التحديث وبين بيروقراطية الدولة التي دشنت التخلف طوال عقد الستينات الماضية. ولكن بفضل "الفكر الجديد" داخل الحزب تم إدماج الاقتصاد في السوق العالمية بتدفق الاستثمارات العالمية والعربية والمحلية، فشيدت عشرات المدن الجديدة وبنيت مئات المصانع، وتحسنت الخدمات فأنيرت القري، واحتاز ملايين المصريين الحواسب والهواتف المحمولة، كما انتعشت السياحة بما لا يقاس، والحصاد: ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي إلي 558 مليار جنيه عام 2006 وكان لا يعدو 21 مليار جنيه عام1981 كما بلغ متوسط نصيب الفرد في نفس العام من هذا الناتج الإجمالي 7750جنيهًا مقابل 534 جنيهًا عام 1981 (الأرقام مصدرها الهيئة المصرية العامة للاستعلامات) ومن الناحية السياسية فقد تجنبت مصر الانزلاق إلي حروب ونزاعات عسكرية خارجية طوال هذه العقود الثلاثة، فحُقنت دماء أبنائها ونجت ديارُها من الدمار، وبذلك توطدت حرية التعبير والصحافة، وتقلص النظام الشموليTotalitarianism حيث أتيح للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني أن تشارك في إدارة البلاد كل حسب قدرته، أضف ترسيخ الدولة المدنية بالنص علي مبدأ المواطنة ( المادة الأولي من الدستور المعدل ) وإقصاء أي نشاط سياسي يقوم علي أساس ديني (المادة الخامسة) قد يلقي بالوطن في أتون حرب أهلية مهلكة. وللمعارضة قول آخر أما الرؤية الثانية فتتبناها قوي المعارضة: أحزاب شرعية، وتنظيمات سياسية محظورة كالإخوان المسلمين، وحركاتٍ راديكالية مبتكرة مثل كفاية ، 6 إبريل ، الجمعية الوطنية للتغيير...الخ، إذ يجادل جميعها- بدرجات مختلفة - في أن مصر فقدت دورها القائد في منطقة الشرق الأوسط، فقد حلت السعودية محلها في السبعينات، وحلت إسرائيل محل الاثنتين في الثمانينات، وهاهي إيران وتركيا تسعيان اليوم لمنافسة إسرائيل في تدبيج الأجندة السياسية للمنطقة، تعاونا أو تنافساً مع القيصر الأمريكي. والأسوأ أن دور مصر في أفريقيا قد بهت حتي أن حكام دول منابع النيل أقبلوا يتذامرون لتخفيض حصة مصر "المحروسة" من المياه بما يهدد حياة شعبها بأسره. ذلك كله عائد - بنظر المعارضة - إلي فشل الحزب الحاكم علي المستوي الاستراتيجي، جراء احتكاره للسلطة مرتكزا ً علي قانون الطوارئ وعلي المؤسسة الأمنية، مؤلفة ملحمة تزوير الانتخابات. زد عليه " توزير" من ُوصفوا برجال الأعمال (الرأسماليين الجدد) وهؤلاء قد تمكنوا بآليات مستحدثة من السيطرة علي مقدرات الدولة، فبات إفقار الشعب واقعاً مفروضاً بسياساتهم الأنانية ضيقة الأفق، تلك السياسات التي لا تكترث بتصاعد حركات الاحتجاج والمظاهرات والاعتصامات، والتي تشي باحتمالات انفجار الفوضي المنذرة بأوخم الشرور. هاتان إذن رؤيتان لا سبيل إلي التقريب بينهما، فلقد تبلورتا بالفعل في اتجاهين سياسيين متعاكسين، يزعم كل منهما أنه وحده المنقذ والمخلّص دون سواه. وعليه فإن سؤال استعادة النهضة في مصر- وهو سؤال خاطئ كما سنري - ينبغي أن يعلق في رقبتي الاتجاهين معاً، لأن كليهما يقبله كصيغة لا بديل لها. وآية ذلك أن أنصار المرشح المحتمل للحزب الوطني يرفعون شعار " بداية جديدة لمصر" وكذلك يفعل أصحاب الاتجاه الثاني حين يطالبون بدستور جديد. ما المقصود بكلمة النهضة ؟ يطلق المؤرخون علي الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر في أوروبا اسم " عصر النهضة " Renaissance وهو مصطلح معناه إعادة الولادة، فكأن موتاً إكلينيكياً قد حل بأوروبا منذ سقطت روما عام 471 في أيدي البرابرة الجرمان، لتنقضي عشرة قرون مظلمة قبل أن يهل علي الناس مولود حضاري جديد، ألقي بذرته في رحم أوروبا الوصول إلي أمريكا، وتلقفته " قابلة ٌ" هي حركة ُ الإصلاح الديني، التي أوقفت هيمنة الكنيسة علي حياة وأفكار الناس، وأما من تعهده بالتربية والتثقيف فكان فكر الحداثة الذي صاحب الثورة الصناعية بداية من الاكتشاف الثوري: طاقة البخار. فلا مشاحة إذن أن يكون هذا المصطلح - بهذا المفهوم- أداتنا العلمية لفحص دعوي المطالبة ب " استعادة النهضة في مصر" فكيف نفعل ذلك؟ أولا ً : ينبغي الإقرار بأن مفهوم النهضة يشير إلي المغادرة، أي استعداد الناس لهجر الوضع ما قبل الرأسمالي Pre- Capitalism الذي يتسم بخضوع الاقتصاد لمتطلبات " أولي الأمر" واعتبار الأفراد مجرد رعايا لا شأن لهم بإدارة البلاد، أو تقرير مصيرهم بأنفسهم. وبالمقابل تمهد النهضة لولوج عالم الحداثة الذي تحدد فيه مقتضيات التطور المادي آفاقَ السياسات المطلوبة، بما فيها اختيار الشعب لحكامه ومحاسبتهم وتبديلهم...الخ إضافة إلي امتلاء شعور الفرد بذاته بحسبانه سيد مصيره، لا يعكر عليه في ذلك أية ادعاءات ميتافيزيقية أو ثيولوجية. علي ضوء هذا المفهوم لا مندوحة من السؤال عما إذا كانت ثمة نهضة فعلية قد حدثت في مصر؟ أم مازال بعضنا ينتظر؟! ثانيا ً: يجب الوقوف عند ذلك التعبير الذي يحمل بداخله تناقضاً ذاتياً، فالنهضة Renaissance هي- كما أوضحنا- في حد ذاتها استعادة، فهل ترانا نبتكر اصطلاحاً جديداً هو استعادة الاستعادة Rerenaissance ؟! أم نقول بالأصح إن النهضة التي كادت أن تحدث في القرن التاسع عشر بتأسيس محمد علي للدولة المدنية العصرية قد أجهضت مرتين، الأولي بعد هزيمة 1827 إذ تخلي محمد علي مجبراً عن مشروعه في اللحاق بعالم الرأسمالية الحديثة، والثانية بعد هزيمة يونيه 1967حيث جري أيضاً التخلي عن حلم الاستقلال الاقتصادي، وما تبع ذلك من انبعاث الفكر السلفي وهيمنة الأصولية كلية ً علي المجتمع وجزئياً علي الدولة، وربما نذكر في هذا المساق أطروحة بيتر جران في كتابه " الجذور الإسلامية للرأسمالية" القائلة بنهضة كادت أن تحدث في القرن الثامن عشر ولكن أجهضتها الحملة الفرنسية. فيا لنهضة مآلها الإجهاض كلما أطلت برأسها من الرحم التاريخي! ثالثا ً: ليس من قبيل المماحكة اللفظية محاولة التدقيق في استخدام وضبط المصطلح بتحديد ما إذا كان المطلوب هو النهضة أم استعادة النهضة، فكما رأينا آنفاً أن الاتجاهين الرئيسين في الواقع المصري يرفعان الشعار نفسه بأريحية مدهشة، ولكن دون التفات لوظيفة الشعار ومضمونه وشروطه التاريخية المحايثة! الفحص المحايد في سياق النقد الذاتي لا غرو سيبرهن علي أن مجتمعاتنا العربية، ومصر في مقدمتها لم تعرف حتي الآن سوي "محاولات " للنهضة ما تلبث حتي تتعرض للسقوط سواء بفعل عسكري خارجي ( غايته تمكين الرأسمالية الغربية من إغلاق الأسواق أمام كل محاولة مصرية تستهدف رسملة البلاد) أو بالقصور الذاتي الناجم عن تخلف تاريخي كثيف، بدأ بانحسار الفتوحات العربية في القرن التاسع، حيث أرغمت البورجوازيات التجارية العربية علي وضع أقدامها في الأحذية الصينية، قمعا ً لإمكانية تحولها إلي قوة ثورية في مواجهة إقطاع الدولة العسكرتارية، فكان لزاماً أن ُيطرد من " قصور" المعرفة الفكرُ المعتزلي العقلاني المتحررُ ليبقي مدحوراً في الجحور، وليحل محله في مقدمة المشهد الثقافي فكرٌ أشعري مهادن وتابع للسلطة، وفقه ٌ حنبلي جامد يخدمها بتكريسه ضيق أفق الرعايا. وهذا الفكر وذلك الفقه لا يزالان يعملان عملهما في عقولنا حتي الآن. يوم تتغير الأسئلة فهل ثمة أمل في أن يدرك الاتجاهان الرئيسان في مصر أن سؤال النهضة قد ولي زمنه وتلاشت شروطه، ليركزا علي ضرورة الاندماج " الثقافي" في عالمنا المعاصر، المسافر علي ذري الموجة الثالثة، تلك التي تندفع بزخْمها للمستقبل عبر ثورة المعلومات والاتصالات والإنتاج المعرفي؟ ذلك هو السؤال المنتج حقاً، ولحسن الحظ فإن الثورة الحالية هي ثورة من نوع جديد، متمرد علي نموذج " المركزية الأوروبية " الذي يشترط النهضة أولا ً ثم الإصلاح الديني ثانياً فالتنوير ثالثاً قبل الدخول في عالم الحداثة ! إنما في ظل الثورة الحالية فإن بإمكان أي مجتمع متخلف أن يركب موجتها قفزاً، وسواء نجحت قفزته بدرجة امتياز أو بدرجة مقبول فلا ريب أن أفكاره ( بما فيها أسئلته) سوف تتغير. ونموذج أيرلندا - مثالاً لا حصراً - أقوي شاهد علي صحة القول بأن وجود الناس هو الذي يحدد أفكارهم وليست أفكارُهم هي التي تعين أنماط حياتهم.