ثلاث محطات رئيسية مر بها قطار نظام الدولة قبل أن يصل إلي غايته علي رصيف مؤسسة الدولة القومية الحديثة ، وأما المحطات السابقة فكانت علي التوالي دولة المدينة ، فالدولة الإمبراطورية ثم الدولة الدينية والسؤال الحيوي في هذا العرض المختصر لتطور نظام الدولة يمكن صياغته علي النحو التالي هل يمكن لنموذج الدولة القومية الحديثة الذي أمسي معترفا ً به عالميا ً منذ توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648 أن يبقي ويستمر بوصفه المعبر عن الخصوصيات الثقافية للشعوب المختلفة ؟ وهل يجوز لنا أن نفترض أن الدول الصغيرة مثل دولتنا بمقدورها الانفلات من شباك الصيد الثقافية التي تنصبها القوي الكبري سواء كانت دولا أم منظمات عالمية أممية ؟ ثلاث محطات رئيسية مر بها قطار نظام الدولة قبل أن يصل إلي غايته علي رصيف مؤسسة الدولة القومية الحديثة ، وأما المحطات السابقة فكانت علي التوالي دولة المدينة ، فالدولة الإمبراطورية ثم الدولة الدينية والسؤال الحيوي في هذا العرض المختصر لتطور نظام الدولة يمكن صياغته علي النحو التالي هل يمكن لنموذج الدولة القومية الحديثة الذي أمسي معترفا ً به عالميا ً منذ توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648 أن يبقي ويستمر بوصفه المعبر عن الخصوصيات الثقافية للشعوب المختلفة ؟ وهل يجوز لنا أن نفترض أن الدول الصغيرة مثل دولتنا بمقدورها الانفلات من شباك الصيد الثقافية التي تنصبها القوي الكبري سواء كانت دولا أم منظمات عالمية أممية ؟ لنضرب صفحا ً عمن يعالجون مثل هذه القضايا المصيرية بلهجة التفاؤل الساذجة المنتشرة بين موظفي البرامج التليفزيونية وكتاب الصحف الباهتة ، وكوادر الأحزاب السياسية أسري الأيديولوجيات التي هي وعي زائف ولنتجاهل أيضا ً حملة مباخر الشعار المحفوظ من فترة ستينات القرن الماضي القائل إننا قادرون علي التحرر من الهيمنة الثقافية الأمريكية تحديدا ً لأننا أقوياء بتاريخنا وتراثنا وأمجادنا و,,,الخ فلا أحد عاقلا ً يصدق هذا الزخْم اللساني اللهم إلا إذا وافق بن لادن وهو بدوره قوة مهيمنة علي ما يفعله ك جهاد ضد عالم ماك وماك هذا تعبير نحته المفكر الأمريكي المعاصر بنجامين باربر باستعارة منه لما يدل عليه التعبير من محلات ماكدونالدز ، التي هي أشبه بمدينة ملاه ٍ حدودها العالم بأسره حيث تقدم أساليب الحياة الأمريكية بمأكولاتها وملبوساتها وترفها الباذخ وألعابها المغرية بالاندماج في كل ما هو سطحي ، وباختصار لنقل بإفرازاتها الثقافية ذات المعدن الخسيس والمطلي بقشرة الذهب الزائفة أما الجهاد فلا شك أنه يمثل رد الفعل الثقافي المسلح علي تقسيم العالم من ناحية إلي بشر سعداء بأنانيتهم وتفاهة عيشهم الظامئ دوما إلي مياه بحر الشهوات ، ومن ناحية أخري إلي أناس يتمرغون في رمال الجوع والمرض والبؤس العميم ومن ثم يشحذ الجهاد كل ما يستطيع من قوي كي يدمر بها ليس حسب ُ الشر الناجم عن أمراض الحضارة العالمية المعاصرة ، بل الحضارة ذاتها من رأسها لذيلها حتي دون أن ينتدبه أحد لهذه المهمة والحق أن شعوب العالم الثالث باتت أقرب ما تكون إلي أن تقع في الاستقطاب بين هذين النموذجين الجهاد وماك اللذين يتفقان في الغايات لا في الوسائل علي معاداة الديمقراطية من منطلق أنثروبولوجي وفلسفي يري ألا أساس لخصوصية ثقافية لأي مجتمع من المجتمعات، فالبشر جميعا ً جنس واحد لا مناص من خضوعه لشريعة الخالق الواحد حسب الجهاد أو للرغبات البيولوجية والفسيولوجية الواحدة بفكروية ماك فما أصل المشكة؟ طبيعة الهوية لا يوجد امتداد للخصوصية الاجتماعية الثقافية، و ما يتصل بها من هوية Identity إلا في سياق اجتماعي زمني معين وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه أنور عبد الملك عندما أسس الهوية المصرية الدائمة علي نظرية النمط الآسيوي للانتاج كارل فيتفوجل التي تري أن مركزية الدولة القائمة علي أنظمة الري المخطط، تتيح للدولة أن تتحكم في الأرض الزراعية ومن عليها، بل ويمضي عبد الملك بما يفهم منه أن اللاهوت بتلك المجتمعات التي تعيش علي الأنهار الطويلة قليلة التفرعات سوي عند المنبع، كان حريا ً بمسايرة القوة المركزية فكان أن جعل هذا اللاهوتُ آلهتَه معبرة عن تلك القوة المركزية عنها، مستندا في ذلك علي إنجلز الذي سجل هذا الرأي في رسالة منه إلي ماركس وهي رسالة يكتنفها الغموض الذي يشي بأن منظومة الدولة المركزية الشرقية لم تستوف حقها من الفحص والدراسة لا عند إنجلز ولا حتي ماركس وبالتالي يبقي نموذج المراحل الخمس المشاعية فالعبودية فالإقطاع فالرأسمالية ثم الإشتراكية مسيطرا ً علي مخيلة الماركسيين ، مزيحا ً ما عداه إلي هامش الكتاب وهنا تكون الماركسية قد انزلقت علي أرضية حمامها الخاص بحيث لم تستطع أن تري من نافذته ملامح الخصوصية الثقافية للمجتمعات الإنسانية ، حتي ولو كانت هذه الخصوصية نسبية في زمان نسبي مدرسة فرانكفورت وهذا بالضبط ما حدا بمدرسة فرانكفورت النقدية لشن هجومها الفلسفي علي فكرة الدولة القومية هكذا كانت تعتبر الاتحاد السوفييتي دولة قومية برغم ادعائه الأممية فالدولة الحديثة سواء كانت رأسمالية أم اشتراكية تسلب الفرد وعيه الخاص وتحيله بذلك إلي جزء من كل ِ جماعي، هذا الكل الذي تتخلق فيه بواسطة الأيديولوجيا والثقافة الموجهة سمات معينة تسميها الدولة خصوصية قومية من قبيل الرياء الاجتماعي وهنا يحضرنا عالما الاجتماع الكبيران دور كايم ، وماكس فيبر اللذان كشفا بأبحاثهما العلمية أن الذاتيةSubjectivity ليست مطلقة ولا ثابتة فإذا صح رأيهما وهو صحيح فعلا ولكن بمعني معين فكيف يمكن لنا نحن المصريين التحدث عن هوية تمتد من عصر ما قبل الأسرات ، ثم تتفرعن أي تصبح فرعونية ثم تتنصر أي تصبح قبطية مسيحية، ثم تتمسلم وتتعرب أي تصبح إسلامية عربية ، ثم ها هي ذي أخيرا ً تتغربن أي تصبح غربية في ظل العولمة الكاسحة؟ ما من شك في أن الإجابة عن هذا السؤال لن تكون في صالح القوميين بما هم عليه من ثبات وجودي إنكار حقيقة تطور الكائنات ومع ذلك فمن الخطأ القول بأنه لا توجد خصوصيات اجتماعية ثقافية بالمعني الموضوعي للكلمة ، وإلا فكيف قامت علي تلك الخصوصيات أيديولوجيات وهويات ثقافية معينة ظلت حية لأوقات طويلة؟ حقيقة النمط الآسيوي نعم ثمة تحفظات علي مقولة النمط الآسيوي للإنتاج ، بوصفها أداة بحثية Research Instruments ذات بعد واحد هو البعد الجيومورفولوجي أو بترجمة عربية ركيكة مني جغرافية نظام الري والصرف، وهي بهذه الصفة قد تم رفضها كلية بواسطة رينيه جوندر فرنك وفاليرشتاين وسمير أمين، وتنازل عنها جزئياً بيري أندرسون , ومع ذلك ستظل هذه المقولة الأداة البحثية الصالحة لتفسير عصور بكاملها ران فيها الجمود علي بلدان شرقية كثيرة في مقدمتها مصر فاستخدمها أحمد صادق سعد علي خلاف أنور عبد الملك لا بحسبانها الأداة الوحيدة الصالحة لكل زمان ومكان، بل باعتبارها الأداة الأنسب لبلد معين في فترة زمنية معينة والحاصل أن من يقبلون هذه الآلية، ومن يستبعدونها يفعلون ذلك اتكاء علي نفس المرجعية الماركسية الشاحبة كما أوضحنا آنفا ً، وكأن الماركسية لا يأتيها الباطل من بين يديها أو خلفها في حين الخطأ خليق بالتسلل إليها من تحت عقب بابها الأوسع الذي فتحته علي ما تسميه في أدبياتها الأممية وهذا ما يفسر التقاء مدرسة فرانكفورت النقدية وتنظيم الجهاد وعالم ماك كل لأسبابه الخاصة حول ضرورة نبذ الدولة القومية الحديثة المؤسسة علي فكرة وحدة الثقافة الوطنية ومن الجلي أن الدولة القومية ليست هي من وجهة نظر فلسفية بحتة نهاية التاريخ ، فربما يأتي وقت يستغني فيه الناس عن الدولة كمؤسسة مهيمنة ذات سيادة مطلقة، وقد تحل محل الدول القومية المتعددة دولة عالمية واحدة تطبق قانونها الإنساني الواحد علي جميع البشر دون تفرقة بين أبيض وأسود، أو مسيحي ومسلم ، متدين أو ملحد، رجل وامرأة الخ وربما ترتمي البشرية في فوضوية كاسحة تعود بها إلي عصور البربرية الأولي كل ذلك رهين بالمستقبل البعيد، إنما واقع الحال في عصرنا لا غرو يسعي لحل مشكلاته عن طريق توسيع دائرة صلاحيات الشعوب سياسيا ً واجتماعيا ً واقتصاديا ً علي أرض فلسفة الديمقراطية ، تلك الفلسفة التي لا يمكن أن تتبناها سوي الدولة القومية المدنية الحديثة