علي الرغم من أن ثورة الغضب في ليبيا قد انطلقت في السابع عشر من فبراير عام 2011 إلا أن هذا اليوم لم يكن سوي تتويج لرحلة نضال بدأها محامي شاب، في التاسع والعشرين من يونيو عام 1996 . لم يكن هذا الشاب - آنذاك - يدري أن القدر قد اختاره، لكي يكون الشرارة الأولي التي تشعل ثورة ضد طاغية بلاده، وهو بعد لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره .، ثم يكون اعتقاله بعد 15 عاما مفجرا للثورة . وكما استلهمت ثورة الغضب الليبية الثورتين المجاورتين في تونس ومصر، فهي أيضا كانت لها أيقونتها، وكما كان بو عزيزي في تونس، وخالد سعيد في مصر، كان فتحي تربل في ليبيا . قصة فتحي تربل، هي ببساطة قصة شاب كان يكافح الأمرين في بداية حياته، كي يترجم ما يدرسه في كلية الحقوق إلي واقع، وكان ينتظر قضية كبري يعبر من خلالها عن قدراته، بعد تخرجه . ولكن قبل أن يمسك بشهادة تخرجه، جاءت القضية الكبري، واختاره أهالي الضحايا ممثلا لهم، ثم محاميا ذ فيما بعد - ليكتشف أنه لم يعد المحامي فقط، وإنما أيضا واحد من موكليه، ثم مع الوقت أصبح واحدا من الضحايا، الذين يدافع عنهم . وهنا أصبح المحامي والضحية وموكله شخصا واحدا . هكذا وُلِدَ البطل كانت القضية التي غيرت حياته - ربما للأبد - هي مجزرة سجن أبو سليم الدموية، التي تجاوز فيها القذافي آدميته، بل وتجاوز الوحوش في ضراوتها، حيث أمر بإعدام 1200 من المعتقلين السياسيين بهذا السجن، بفتح نيران بنادقهم علي هؤلاء المعتقلين العزل، وقتلهم دون محاكمة، وسفك دمائهم دون رحمة، فيما اتفقت منظمات حقوق الانسان في العالم علي تسميتها ب " أحد أسوأ أيام التاريخ الإنساني "، وكان من بين الضحايا أحد اشقائه وابن عمه وزوج شقيقته. وشاءت الأقدار أن يرفض المحامون قبول القضية، خشية أن ينتقم منهم القذافي، أو أن يلقوا نفس مصير ضحايا مجزرة سجن أبو سليم . وكان من الممكن أن يرفض تربل الصغير حديث التخرج قبول القضية كمحامٍ إضافة لكونه ممثلا لعائلات الضحايا في بنغازي ثاني مدن ليبيا، رغم رغبته في القصاص، بعد أن رفض الجهابذة الكبار من أساتذته، ويوثر السلامة، ولكنه قبل التحدي، ورفض التخلي، لتبدأ رحلة التنكيل به، والتي امتدت 15 عاما، حتي يوم الغضب في السابع عشر من فبراير، والذي فجره نبأ اعتقاله قبله بيومين. وهنا يظهر تربل إلي دائرة الضوء، علي المستوي الرسمي، حيث بدأت عيون أجهزة أمن القذافي القمعية تترصده، لإصراره علي الإبقاء علي القضية حية، والحفاظ علي دماء الضحايا ساخنة، وفضحه جرائم النظام علي الملأ داخل وخارج ليبيا، وعلي المستوي الشعبي، حيث بدأ الليبيون ينظرون إليه كبطل قومي يحارب قوي القهر والظلم والقمع والإذلال . قبل هذا التاريخ، لم يكن الليبيون يفكرون في ثورتهم الكبري، كانت هناك احتجاجات، وربما صدامات مع النظام وزبانيته، ولكن الساحة لم تكن معدة بما يكفي للثورة، ولكن بظهور تربل، بدأ إعداد المسرح لليلة القذافي الأخيرة في السلطة، والفضل يعود لتربل، من خلال نضاله، وإصراره علي فضح النظام والمطالبة بإسقاطه، واعتقاله سبع مرات، حيث كان يتعرض لأقصي عمليات التعذيب، وربما ما حال دون قتله هو منظمات حقوق الإنسان في العالم، التي كانت تتابعه، وتضغط علي النظام القمعي بقوة، حتي لا يقوم بتصفيته جسديا . وهكذا خاض تربل المعركة غير المتكافئة مع القذافي وجهاز أمنه القمعي حتي اعتقاله الاخيرفي الخامس عشر من فبراير، الذي فجر ثورة الغضب . المحاكمة أو القتل ! وهكذا جسد فتحي تربل (39 عاماً) حركة الاحتجاج علي القذافي، ثم جسد الثورة علي حكمه، وأصبحت صفحته علي الفيس بوك هي قبلة الملايين من الشباب، وانضم إليه نشطاء آخرون داخل وخارج ليبيا، قبل أن يتحول حلم الثورة إلي حقيقة . وكما أنشأ المصري وائل غنيم صفحة " كلنا خالد سعيد " التي جمعت الملايين تمهيدا للثورة، هكذا فعل الليبي المعارض الذي يقيم في سويسرا حسن الجهمي، منشئ صفحة " انتفاضة 17 فبراير " حيث أكمل ما بدأه فتحي تربل، متكئا علي شرارة الثورة التي فجرها الأخير . ويقول تربل : " في 15 فبراير جاء 20 من عناصر قوات الأمن مدججون بالسلاح إلي منزلي، واقتادوني إلي عبدالله السنوسي مسؤول الأمن الشخصي لمعمر القذافي، والذي كان - آنذاك - في بنغازي، وكان عصبياً جداً، وأدركت أن ما يريده هو منع يوم الغضب المقرر في السابع عشر، والتي كانت بعد أيام قليلة علي تنحي الرئيس المصري حسني مبارك، تحت ضغط الشارع، وقبله الرئيس التونسي زين العابدين بن علي. ويقول فتحي تربل الذي أطلق سراحه فجر السادس عشر بعد بدء المظاهرات في الخروج للمطالبة بالإفراج عنه، وعلي أمل تهدئة الأمور، حتي أن سيف الإسلام القذافي خرج علي الملأ ليعلن نبأ إطلاق سراحه، فيما يذكرنا بما حدث مع وائل غنيم أيام ثورة الغضب المصرية. ويقول تربل : " أريد أن نأتي بالعقيد أمام القضاء في محاكمة عادلة، ويضيف الشاب خلال لقاء مع المراسلين الأجانب في مركز قيادة الثورة الليبية في بنغازي، محاطاً بمستشارين أكبر منه سناً، و بدا متوتراً حيال الاهتمام الإعلامي العالمي له بدرجة لم يألفها من قبل : " آمل من كل قلبي أن يتم اعتقال القذافي حيا، لكن إن لم يكن ذلك ممكناً...". وترك تربل جملته معلقة بينما أشار بيده إلي عنقه، بإشارة القطع، في إيحاء بمصير القذافي حال وضع الشعب يده عليه، انتقاما لآلاف الضحايا، الذين قتلهم أثناء تظاهراتهم، بدمٍ بارد، ولا يزال.