بمناسبة ما طالبت به نقابة الصحفيين الدولة بسرعة إصدار التشريعات الصحفية وبإنشاء نقابة للإعلاميين لوضع ميثاق شرف، فإنني أدعو المختصين بالدولة والمعنيين بهذا الأمر إلي قراءة حكمين صادرين من ذات محكمة القضاء الإداري بالاسكندرية برئاسة المستشار الجليل الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة، الحكم الأول في الدعوي رقم 5909 لسنة 62 ق بجلسة 25 يونيه 2013 أي قبل ثورة 30 يونيه بخمسة أيام، وكان الحكم بمناسبة إلزام وزير الإعلام الإخواني برد المكافآت التي تقاضاها من رئيس الوزراء هشام قنديل دون وجه حق والتي قاربت ربع مليون جنيه خلال 4 أشهر، والحكم الثاني في الدعوي رقم 2562 لسنة 67 ق بذات الجلسة عن أحقية الصحفيين بصرف بدل التكنولوجيا، ومن العجيب عند قراءة هذين الحكمين نجد تشخيصا دقيقا لحالة الخطر التي يعانيها الإعلام الآن ووضعت المحكمة الضوابط لها وكأن القضاء يستقريء المستقبل علي ضوء تجارب الماضي ولكن الحكومة أو قل الدولة لم تفتح عينيها عليهما، ويمكن التركيز في هذين الحكمين القضائيين علي أربعة محاور رئيسية : أولا: حدد الحكم الأول مبدأ حرية الإعلام واستقلاله بقوله « إن مبدأ حرية الإعلام واستقلاله بات من المبادئ الأساسية في الأنظمة الديمقراطية الحديثة ويعني ألا يعتمد الإعلام علي سلطان الدولة بل يعتمد علي ما يقدمه للناس من آراء وأنباء وتدفق موثق للمعلومات، انطلاقا من حق الشعب في أن يتابع مجريات الحوداث والأفكار وتوجيهها بما يتفق وإرادته، ليؤدي الإعلام رسالته في خدمة المجتمع والتعبير عن اتجاهات الرأي العام والإسهام في تكوينه وتوجيهه في إطار المقومات الأساسية للدولة والحفاظ علي حقوق وحريات الأفراد واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ومراعاة مقتضيات الأمن القومي. ثانيا : تحدث الحكم الأول عن وظيفة الإعلام وعلاقتها بالحاكم بقوله « إن الوظيفة الأساسية لوسائل الإعلام المختلفة هي الوفاء بحق الشعب في المعرفة، فضلا عما يجب أن تقوم به من أدوار أخري في مجال التثقيف والتنوير والتوجيه في كافة النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث يكون المواطن علي بصيرة من أمره، وأن عدم استقلالها يحول دورها من رسالة للإعلام إلي آلة للدعاية وثمة فارق بينهما، إذ يجب أن تقول للحاكم ما يريده الشعب منه وفي ذات الوقت تقول للشعب ما يناشد به الرئيس شعبه ليلتف حوله « ثالثا : ثم يمضي الحكم القضائي الرصين يوصف أزمة الإعلام ويضع الضوابط الكفيلة لمواجهة تلك الأزمة بقوله « إنه يتعين وضع الضوابط والمعايير الكفيلة بالتزام وسائل الإعلام بأصول المهنة وأخلاقياتها ومراعاة قيم المجتمع وتقاليده البناءة مما بات معه من الضروري وضع ميثاق الشرف لمهنة الإعلام باعتبارهم شركاء في مسئولية الكلمة ولضمان الحرية المسئولة للإعلام وكفالة التعددية الإعلامية والقضاء علي الاحتكار الإعلامي بما يتماشي مع أهداف الشعب والضمير الإنساني وعلي قمتها تقديم المعلومات الصحيحة للشعب في حينها وعرض وجهات النظر المختلفة عرضا أمينا متوازنا في كافة الموضوعات التي تهم الشعب دون تحيز أو تحزب أو إثارة، واحترام القيم الدينية السمحاء والقومية، والمشاركة في تنوير الرأي العام وتشكيل الذوق العام تشكيلا سليما وسيادة القانون ومراعاة حرمة الأسر والمظهر اللائق في الأداء بالقول أو بالمظهر، ومنع إذاعة ما يدعو إلي الانحلال وتفككه أو ما يدعو الشعب للإحباط، وكفالة حماية الإعلاميين من أي ضغط أدبي أو مادي لإكراههم علي أي شئ لا يتفق مع كرامتهم أو كرامة رسالتهم واحترام آداب الزمالة في الحقل الإعلامي خاصة عدم تجريح البعض للبعض الآخر مما أضحي معه وضع هذا الميثاق يشكل ضرورة دستورية وقانونية ومجتمعية ملحة يجب أن يضعه الإعلاميون أنفسهم بمختلف المدارس الإعلامية وتنوعاتها ويلتزمون به دون وصاية من أحد إلا في حالة خرق قواعده «. رابعا : وفي الحكم الثاني لذات القاضي بنفس الجلسة في الدعوي رقم 2562 لسنة 67 ق عن أحقية الصحفيين بصرف بدل التكنولوجيا قالت المحكمة « إن الصحافة المصرية هي مهنة البحث عن الهموم والمتاعب وليس البحث عن المغانم والمكاسب، وأن مصر أول من أدخل الصحافة إلي المنطقة العربية التي شاركت بتاريخها المجيد في إثراء الحركة الوطنية وإرساء حجر الأساس في البناء الديمقراطي وأن رواد القلم قدموا تضحيات رائعة علي رأسهم عبد الله النديم وتوالي نضال أجيال من الصحفيين دفاعا عن الحريات المهنية والعامة باعتبار أن حرية الصحافة الركن الركين في الضمير العام للأمة، فضلا عن العديد من التحديات التي يتعرض لها الصحفي تحول دون أداء رسالته علي الوجه الأكمل منها التلويح دائما بإلغاء تقرير بدل التكنولوجيا فضلا عن التوسع في تكبيل حركة الصحفي في بعض التشريعات العقيمة لتحويله إلي مجرد موظف حتي لا تظهر قدراته الحقيقية واسهاماته المهنية ومثل تلك الأمور تضع المهنة في مأزق تفقد فيها مصر ريادتها أمام التقدم والتطور التكنولوجي التي تميزت به الصحافة الحديثة مما يستنهض عدل المحكمة في أن تدعو المشرع إلي تقرير حق هذا البدل وزيادته بما يتناسب مع أعبائه «. ومما تجدر الإشارة إليه، أن الحكم الأول هو أول حكم يكشف عن المرتبات القانونية التي كان يجب أن يتقاضاها رئيس الدولة ورئيسي مجلس الوزراء والبرلمان والوزراء من الناحية القانونية وكانوا جميعا يتقاضون مكافآت باهظة من أموال الشعب، وإعمالا به أصدر الرئيس المؤقت السابق عدلي منصور قانونا بتحديد مرتب رئيس الجمهورية وحتي الآن لم تطبق الدولة الحكم لسائر ممن ذكروا والحكم الثاني لم تقننه الدولة تشريعيا حتي الآن، والسؤال لماذا لا تقوم الحكومة بدراسة الأحكام ذات الصبغة المهمة ؟ ولماذا لا تعمل علي تنفيذ ما ورد بها ؟ حقا إن الأحكام التاريخية كالحقائق الإعلامية لا تموت ولا تتغير بتغير الأنظمة، تحية إعجاب لكل صحفي وإعلامي وطني شريف، وتحية إجلال وتقدير للقاضي الدكتور محمد خفاجي لعلمه ووطنيته وشجاعته.