كما حفل تاريخ الإنسانية بأعمال عظيمة وإشراقات كبري، فقد صادفته في مشواره الطويل نحو التحقق والوجود محنة الظلام واختبارات العدم، ومرت عبر أيامه مساحات للضوء، كما مساحات أخري للعتمة، ولعلنا في محنة باريس مدينة النور والجمال وقد ضربها هذه الأيام سهم الإرهاب الغشوم ليطفئ أنوارها نستعيد ذكريات الإنسانية المعذبة بالجهل والظلام والتخلف، حين سحل «هيباتيا» وحرق «جان دارك» ونستعيد محنة الحسين بن منصور الحلاج، ومحرقة كتب ابن رشد، وحريق مكتبة الإسكندرية القديمة، ومحاكم التفتيش وعذابات جيوردانو برينو وجاليليو، وكوبرنيكوس، وغيرهم ممن حملوا مشاعل التنوير والعقلانية، ومثلوا قيم النهضة «الرينيسانس» لعالم قاوم التخلف والظلام والعنف بالجمال والفكر والعلم والفن والفلسفة، وحسبناه انتصر في معركته للأبد، وإذا بنا أمام دورة أخري لتاريخ مخاتل عاد يراوغ إنسانيتنا في هجمة مجرمة لقوي ظلامية تكره النور كما ترفض التقدم وتحكم في مستقبلنا أسوأ ما حمله ماضينا من مآس ومحن. ضرب الإرهاب باريس كما ضرب مدينة السلام والجمال في بلادنا «شرم الشيخ»، لكنه نسي بغبائه التاريخي المعهود أن الإنسانية لاتعدم القيم، وأن المدن لاتموت. وهل يمكن لباريس بمتاحفها ومباهجها ومسارحها، أن يموت فيها برج إيفل وقوس النصر، وميدان تروكاديرو، وأوبرا باريس، وقصر فرساي، وحدائق شامب دو مارس وحدائق التويليري بزهورها وتماثيلها وبحيراتها الصناعية؟. هل يمكن أن يموت نهر السين والشانزليزيه ومولان روج وساحة الكونكورد ومتحف اللوفر؟. وهل يمكن أن تموت البهجة وأن يودعنا الجمال وتغادرنا أنوار الحرية والإخاء والمساواة التي حملتها الثورة الفرنسية للبشرية، لمجرد أن «داعش» الإرهاب بكل جهالتهم وظلاميتهم يريدون محو هذه القيم الإنسانية وإحلال الجريمة والعتمة محلها؟. هل يمكن لباريس منحة النور وموهبة الوجود وحب الحياة، أن يضعها الإرهاب ومن ورائه قوي كبري متآمرة وأصولية منحرفة رهينة للعدم ومحنة الظلام؟. واجهت فرنسا محنة الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية، وخرجت محررة في أغسطس 1944 ولم يصب وسط باريس بأي دمار أو أذي، ورفض القائد الألماني «ديتريش فون شولتيتز» أوامر هتلر بتدميرها، بينما الدواعش أرادوا إطفاء أنوارها ومحو بهجتها وجمالها فهم أنصار القبح والغباء، ومن أسف أن تركهم «العالم الحر؟!» يدمرون آثار ومتاحف العراق وسوريا، ويحتلون أراضيهما مع جزء كبير من ليبيا، ويهددون مصر الحضارة والتاريخ، وراوغ باراك أوباما وإدارته ومن ورائه ديفيد كاميرون ليصبغوا حماية علي داعش في توسعها، مظنة أن يلاعبوا بها مصر ودول الخليج لفرض مشروعهم الدنيء في تقسيم العالم العربي والشرق الأوسط الجديد، ولم يستمع الغرب لتحذيرات مصر ومنذ 1986 من إرهاب يدق علي أبواب العالم، إرهاب تسلحه أمريكا وتموله تركيا وقطر وغيرهما، ولم يستجيبوا لنداء مصر في الجمعية العامة للأمم المتحدة بوقوف العالم وقفة جادة ضد الإرهاب، بل أحسبهم راحوا يعاقبون روسياوفرنسا لأنهما وقفا إلي جانب مصر وأمداها بالسلاح والأنظمة الدفاعية المتقدمة، وكشفا عورات المراوغة الأمريكية في تمثيليتهم التي لاتخيل إلا علي الأغبياء بتحالف كارتوني ضد داعش، بينما تمددت قواتها الإرهابية لتحتل 250 ألف كيلومتر، بعدما كانت تسيطر فقط علي 25 كيلومتراً من أراضي العراق وسوريا مع بداية ضربات التحالف الأمريكي منذ عام ونصف. إن طلة متأنية علي المشهد العالمي خصوصاً مايخص سقوط الطائرة الروسية في سيناء وضرب باريس، تشي بأن أمريكا وحلفاءها يكافئون الإرهاب ويعاقبون مصر وروسياوفرنسا. ستقول متهكماً نظرية المؤامرة؟ وأقول نعم هي المؤامرة، ورفضها والسخرية منها ماهو إلا ضرب من التخفي والمراوغة، ويكاد المريب يقول خذوني. مصر صامدة لاتزال في وجه المؤامرة، وباريس لن تموت، فباريس ليست شارل إبدو ولا ملعب الكرة ولا مسرح باتاكلان، باريس كما مصر أكبر كثيراً من الإرهاب، وهي في ضمير الإنسانية ومثقفي العالم باقية طالما بقيت أعمال فيكتور هوجو وموليير ومونتسيكيو وفولتير وجان جاك روسو وألكسندر دوما وبلزاك وإميل زولا وآراجون وأندريه مالرو وجان كوكتو ورومان رولان وجورج صاند وسيمون دي بوفوار وجان بول سارتر وجارودي وغيرهم ممن قرأنا لهم وشكلوا وعي وفكر العالم الحر في كل مكان. ومازلت أذكر حوارات أندريه مالرو وسارتر مع جمال عبدالناصر وهيكل وكوكبة المفكرين في الأهرام. ووقفة سارتر والجنرال ديجول مع قوي التحرر في الجزائر وثورة 23 يوليو. نحن لم نعرف فرنسا بصفقة طائرات الرافال ولاحاملات الطائرات الميسترال، فلسنا من أصحاب الذاكرات القصيرة كما باراك أوباما وإدارته وتابعه ديفيد كاميرون وحكومته، بل تمتد معرفتنا بها ومنذ زمن بعيد، وإذا حصرناها في تاريخنا الحديث والمعاصر، فلنذكر تجربة النهضة المصرية مع محمد علي والبعثات العلمية لفرنسا، ومنذ كتب رفاعة الطهطاوي «تلخيص الإبريز في تلخيص باريز»، والشيخ محمد عبده وفكرة التجديد الديني بعد عودته من باريس، ونعرفهم حين ابتعث طه حسين لفرنسا حبيساً لكف البصر، فعاد ببصيرة أنارت أفكارنا ودنيانا، باريس التي احتضنت الخديو إسماعيل والزعيم مصطفي كامل وسعد زغلول ولطفي السيد ومصطفي صادق الرافعي ومحمد حسين هيكل وسلامة موسي وقاسم أمين وأنورعبدالملك وعبدالرحمن بدوي وحسين مؤنس وعلي مبارك ولويس عوض وحسين فوزي وتوفيق الحكيم وسمير أمين وغيرهم، وعادوا لينقلوا إلينا أنوارها وجميل أفكارها. وهي بحاجة اليوم لدعم كل من شاركت في تكوين وعيه وإنضاج مشاعره وهذبت ثقافته ودعمت دولته وحملت له مشاعل التنوير والرقي والحضارة. باريس اليوم في حاجة لدعم كل مصري تدفعه وطنيته للوقوف بجانب من دعمنا ووقف إلي جانبنا، لأنه في موقفه هذا دعم لوطنه وبلاده المستهدفة من إرهاب الداخل والخارج ومراوغة الذين صنعوا الإرهاب وأطلقوه علينا سواء كانت أمريكا أو إسرائيل أو بريطانيا وذيولهم في تركيا وقطر. علي المستوي الشخصي فقد تعرفت علي الأدب الفرنسي وروافده الثرية من رفيقة العمر د. أماني يوسف عندما تزاملنا في جامعة الإسكندرية وأصدرنا مجلة الرسالة وكانت تقوم بترجمة الأدب الفرنسي وتهديني بعضاً من كتبه. ومازلنا نحتفظ في منزلنا في الإسكندرية بلوحات كلود مونيه إلي جانب أعمال رينوار وفان جوخ وكاندنسكي. وعندما حصل ابننا معز علي منحة لدراسة الدكتوراة في العلوم اختار جامعة مونبلييه، أو هكذا كانت نصيحة الأم. كنت أكتب المقال بينما حولي موسيقي «مونامور» بعزف الفرنسي الرائع ريتشارد كلايدرمان، وضوء القمر لبيتهوفن بتوزيع وعزف الفرنسي الفنان كلود ديبوسيه. وكعادة المثقف الكبير د. محمد حسن العزازي رئيس جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا صباح الثلاثاء موعد كتابة المقال نحتسي القهوة معاً، وإذا به يناقش معي هم باريس ومنحتها للبشرية ومحنتها بالإرهاب. علي التليفون كان الصديق الكبير رأفت نوار شيخ المحامين يطمئن أنني أكتب عن باريس. وإذ قال سارتر ذات مرة: جهنم هي الآخرون، فلعله كان يقصد ذلك الآخر الذي هو الضد منا رغم أنه يحمل بعض أسمائنا. حتماً سينتصر النور في مصر وباريس ويهزم الظلام.