في المشهد السياسي المصري الراهن مطالب تنطلق من مبررات منطقية ومعقولة، ولكن الاستجابة لها، لن تؤدي بالضرورة إلي نتائج منطقية ومعقولة.. أحد أهم هذه المطالب، هو الإصرار علي حل مجلسي الشعب والشوري فوراً، وإجراء انتخابات حرة تحت إشراف قضائي كامل لانتخاب مجلسين جديدين، وهو مطلب منطقي ومشروع، في ضوء الحقيقة التي يعرفها الجميع، وهي أن الانتخابات التي أسفرت عن تشكيل هذين المجلسين، قد جري التلاعب فيها علي نطاق واسع، وشهدت درجة من الفوضي أسفرت عن تركيب غير متوازن، لا يعبر عن إرادة الشعب، وهي ظاهرة شائعة، في كل الانتخابات العامة، وصلت إلي ذروتها في انتخابات 0102. لكن تحقيق هذا المطلب المنطقي يتناقض من وجهة نظر المتحفظين عليه مع مطالب أخري منطقية، ربما تكون أهم، لأن حل مجلسي الشعب والشوري، الآن وفوراً، سوف يحول دون اتخاذ أية إجراءات لتعديل النصوص الدستورية، التي تضمن إجراء انتخابات رئاسية تنافسية حقيقية بين أكثر من مرشح، وتضمن ألا تزيد مدة بقاء رئيس الجمهورية في منصبه عن فترتين رئاسيتين، لأن المجلسين طبقاً لنصوص الدستور هما المنوط بهما مناقشة وإقرار أي تعديل للدستور، بنسبة لا تقل عن الثلثين من أعضائهما، قبل طرح هذا التعديل للاستفتاء العام، ليصبح نافذاً من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء عليه. ذلك اعتراض يمكن التغلب عليه، لأن حسابات المدد التي يحددها الدستور، لإعادة انتخابات المجلسين، ولتعديل مواد الدستور، لا تؤدي بالضرورة، إلي هذه النتيجة، إذا ما تم تقصيرها، فإذا فرضنا أن هناك توافقاً وطنياً حول تحقيق هذا المطلب الآن، وأن رئيس الجمهورية قد أصدر في 51 فبراير الحالي، قراراً بحل مجلسي الشعب والشوري فإن هذا القرار طبقاً لنص الدستور لابد أن يشمل دعوة الناخبين لانتخاب أعضاء المجلسين خلال شهرين، وهو ما يعني أن ينعقدا بالتشكيل الجديد في 51 أبريل القادم.. ولو فرضنا أن رئيس الجمهورية، قدم إليهما طلب تعديل المادتين 67 و77 وربما 88 في يوم افتتاح الفصل التشريعي، فإن مناقشة هذه التعديلات، لن تجري طبقاً لنص المادة 981 من الدستور إلا بعد مرور شهرين من تقديمها، ومعني ذلك أنها لن تناقش إلا في 51 يونيو، ولو فرضنا أن المجلسين قد أقراها في الجلسة نفسها فإن الأمر يتطلب صدور قرار من رئيس الجمهورية بدعوة الناخبين للاستفتاء علي هذه التعديلات، قد يتطلب إجراؤه أسبوعين، أي قبل خمسة أيام من الموعد المحدد لفتح باب الترشيح لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد، وهو 5 يوليو، وبذلك يمكن عملياً الجمع بين تحقيق مطلبي إعادة انتخابات الهيئات التشريعية وإجراء التعديلات الدستورية الملحة. لكن تفاصيل أخري، ربما تحول دون الأخذ بهذه الحسبة الدفترية التي تتجاهل تعقيدات الواقع الاجتماعي والسياسي، وبصرف النظر عن أن وزارة الداخلية وهي الجهة الإدارية المنوط بها تقديم التسهيلات اللوجستية لإجراء أية انتخابات لا تبدو في حالة تمكنها الآن من تحمل هذا العبء، فإن إجراء انتخابات حرة نزيهة، يتطلب إعداداً يحقق هذا الهدف، لا يبدأ بإعادة بناء جداول الانتخابات وتنقيتها من أسماء الموتي والغائبين، استناداً إلي بيانات الرقم القومي، ولا ينتهي بإعداد قانون جديد لمباشرة الحقوق السياسية، يأخذ بنظام انتخابي غير نظام المقعد الفردي الذي يهدر أصوات كتلة كبري من الناخبين، ويفرض علي الناخب أن يفاضل بين أشخاص، ليحل محله نظام انتخابي يقوم علي القائمة النسبية، التي يفاضل في ظلها الناخب بين برامج ورؤي أحزاب وجماعات سياسية، وإعداد هذا القانون، يتطلب حواراً ووفاقاً وطنياً حول نصوصه، بما يضمن حق هذه الأحزاب والجماعات بما في ذلك تجمعات المستقلين في خوض هذه الانتخابات بقوائم تمثل كلاً منها، أو تمثل ائتلافاً بينها، ويسفر عن نتائج تعبر عن الثقل النسبي لكل منها. أما أخطر ما تتجاهله هذه الحسبة، فهو البيئة السياسية التي تجري في ظلها الانتخابات المصرية بشكل عام، ومع التسليم بأن انتفاضة الشباب، قد أحدثت نوعاً من اليقظة السياسية في المجتمع المصري، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أنه لايزال بالأساس مجتمعاً غير سياسي، ولاتزال العوامل غير السياسية كالقبلية والعائلية والتعصب الجهوي والانحياز الطائفي، هي العوامل الأكثر تأثيراً في اختيارات الناخب، وهي عوامل تزيد من حدة وخطورة تأثيرها، حالة التصحر السياسي عن الضعف التنظيمي للأحزاب والتجمعات السياسية، بما في ذلك تنظيمات الشباب التي قامت بالانقضاض مما يجعل الإلحاح علي إجراء أية انتخابات عامة الآن، مغامرة محفوفة بالمخاطر، تهدد بوقوع كل ثمار الانتفاضة بين براثن القوي التي استفادت من حالة التصحر السياسي في بناء تنظيم محكم، واكتساب جماهيرية واسعة. وربما لهذا السبب فقد يكون الأخذ باقتراح اعتماد التقارير التي تصدر عن محكمة النقض ببطلان عضوية نسبة ملحوظة من أعضاء مجلس الشعب الحالي، ليحل محلهم آخرون في انتخابات تكميلية.. هو الحل الأقل ضرراً، وأن يظل المجلس قائماً لفترة تكفي لكي تعيد كل القوي السياسية تنظيم نفسها، بما في ذلك الشباب الذين قاموا بالانتفاضة، الذين آن الأوان لكي يشكلوا لهم حزباً سياسياً، أو أكثر، أو ينضموا إلي حزب من الأحزاب القائمة.. وبذلك نضمن مجلساً ديمقراطياً لوطن ديمقراطي.. ونتوقي القفز إلي المجهول!