ربما كانت السينما هي الوعاء الذي يمكن للسياسة أن تودعه أفكارها وأسرارها ورؤيتها, فيصبح الفليم السينمائي في بعض أحيانه معالجة فنية لقضايا المجتمع السياسية ومشكلاته وأزماته. ويمكن لما تعجز السياسة عن التصريح به مباشرة أن تلمح به السينما مجازاً واستلهاماً وإسقاطاً من خلال القصة التي تحمل الرمز أوالعقدة الدرامية التي تستلهم الواقع أوالسيناريو الذي يجسد أزمة البطل وحبكة الرواية. وربما جاء الحوار بكلمة هنا أو جملة هناك لتدعيم المشهد والصورة بما يبرز الفكرة ويشي بما يصعب قوله أو البوح بمفرداته ومعانيه. وفي ضمير الانسانية عاشت أفلام كثيرة عرفها الناس بأسماء مبدعيها سواء تأليفاً أو إخراجاً أوبطولة. ولم يكن من قبيل المصادفة أن نتذكر أفلاماً مثل »عودة الإبن الضال« و»العصفور« ليوسف شاهين ولطفي الخولي أو »الزوجة الثانية« لصلاح أبو سيف وأمين يوسف غراب أو »كتيبة الإعدام« لعاطف الطيب وأسامة أنور عكاشة أو »سواق الأتوبيس« لنور الشريف أو »الكيت كات« لداود عبد السيد ومحمود عبد العزيز أو »ثرثرة فوق النيل« لنجيب محفوظ وضربة شمس لمحمد خان. ومن الأعمال العالمية لازلنا نتذكر "دكتور زيفاجو" لبوريس باستيرناك وديفيد لين و "زد" لفاسيلي فاسيليكوس، وكلها أفلام عبرت عن ضمير الشعب وأزمة العصر وتحولات الفكر ومعاناة الإنسانية. في خمسينيات القرن العشرين كانت فترة المد الشيوعي الكبير ورياح التحول الاشتراكي تعصف بالعقل الأوروبي الشرقي، تقاومها في الغرب أفكار العالم الحر والحافز الفردي وبريق الحلم الأمريكي ووعود الرأسمالية في الرخاء والحرية. ولقد حاولت الحرب الباردة بين المعسكرين استقطاب أفكار واهتمام وانحياز الناس في العالم من خلال السينما، وفي إطارها كتب بوريس باستيرناك المنشق الروسي روايته عن دكتور زيفاجو والتي تحولت إلي فيلم سينمائي تحت نفس الإسم ليبقي الفيلم عنواناُ علي انتقادات حادة للماركسية وتهافت دعاواها من وجهة نظر بوريس باستيرناك الذي حصل علي جائزة نوبل عن هذه الرواية. في المقابل كتب فاسيلي فاسيليكوس روايتة " زد " عن صباح أحد أيام شهر مايو 1963 حين بدت جميع جدران أثينا مغطاة بحرف (Z) شاهداً علي غضب الناس علي السلطة ورفضهم لما يحدث في بلادهم. لقد سقط الإمبراكيس، أحد النواب اليساريين في اليونان قتيلا في وضح النهار تحت سمع البوليس وبصره. وتحولت الرواية إلي فيلم من إخراج كوستا جافراس وبطولة إيف مونتان وإيرين باباس، حصل الفيلم علي الأوسكار سنة 1969 وطاف العالم واستمتعنا بمشاهدته شباباً في الجامعة ، تقريبا في نفس الفترة التي شاهدنا فيها دكتور زيفاجو. كانت (z) علامة علي ذلك المجهول في السلطة والذي تآمر لسقوط نواب المعارضة اليساريين وأعضاء نقابات العمال الناشطين الذين تعرضوا للبلطجة والضرب والقمع وحتي القتل. وهكذا يتضح لنا أن السياسة كانت حاضرة في السينما وكانت مؤثرة وملهمة في ذلك الوقت ولاتزال. في بداية الثمانينيات ومع صعود أفكار اليمين المتطرف للجمهوريين في الولاياتالمتحدة برئاسة ريتشارد نيكسون وسياساته الداعمة للرأسمالية المتوحشة والتحولات الإقتصادية الحادة لصالح كبار الرأسماليين مما كان له صدي إجتماعي عميق علي قطاعات عريضة من الشعب الأمريكي، حيث حاصرت الأزمة صغار الرأسماليين والبرجوازيين الذين تأثرت أعمالهم وتقلصت مكاسبهم وعانت أشغالهم من ركود قاس، توجهت أنظار الإدارة الأمريكية نحو الشرق الآسيوي محاولة احتوائه وتطويعه بإتفاقيات التجارة الحرة مع النمور الآسيوية والشريك ذي الأفضلية في التعاملات الاقتصادية مع الصين. وكانت السينما أيضا حاضرة تحمل هموم السياسة وتبوح برموزها وأوجاعها. وكان الفيلم الذي لعب بطولته جاك ليمون وحصد جائزة الأوسكار "إنقذوا النمر Save The Tiger" . النمر هنا واقع ودلالة، إذ كانت حملة جمعيات الرفق بالحيوان وأنصار البيئة تجمع التبرعات لإنقاذ نوع من النمور البيضاء حتي لا تنقرض. أما الدلالة فتحملها لقطات الفيلم ومشاهده. وعلي رغم أن ذاكرتي لم تعد تحتفظ باسم الكاتب إلا أن موضوع الفيلم وأحداثه ربما أنعشوا ذاكرتك فتكمل عزيزي القارئ ما فاتني وربما توصلت لمعني الدلالة ومغزاها. الفيلم يحكي عن جاك ليمون وشريكه العجوز حيث يمتلكان مصنعاً للملابس الجاهزة والذي من خلاله كانوا لسنوات طويلة نجوماً للمجتمع وشخصياته العامة واحتكروا بسببه الوجاهة الإجتماعية والسلطة حيث استوظفوا لديهم عدداً لا يستهان به من العاملين الذين كان استقرارهم الأسري وتقدمهم الإجتماعي وحراكهم الطبقي في أيدي هذين المالكين، فدانو لهما بالشكر والامتنان والتبعية. ظل الحال رغداً لسنوات طويلة ، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد نشأت مصانع جديدة وأدارت عقل المجتمع وانحيازه أفكار جديدة. لم يعد جاك ليمون وصديقه يدعيان للحفلات العامة والندوات وإجتماعات الروتاري وجمعيات رجال الأعمال إلا فيما ندر، وبارت تجارتهما حتي أصبح مستقبل المصنع والعاملين به في مهب العاصفة. لذا فقد حاولا معاً كل شيء من أجل البقاء والاستمرار. يبدأ الفيلم بلقطة "كلوز أب" علي وجه جاك ليمون العجوز بينما صديقه يخبره بأنه "لا مفر مما قلت لك عليه، ولقد ضربت له موعداً اليوم في دار سينما كذا الساعة كذا حتي لا يرانا معه أحد". كان يتحدث عن واحد من المتنفذين وأصحاب العلاقات القوية وقد تخصص في التربح من قدرته علي تجاوز القانون والتلاعب به. ذهبا إليه في الموعد المضروب حيث أعلنهم إنه سيدبر كل شيء، الحريق والمعاينة وتعويض شركة التأمين وهم لن يفعلوا شيئاً سوي ترك أبواب المصنع مفتوحة له بعد تأكدهم من خروج كل العاملين في الوردية المسائية، وأن يدفعوا له مقدماً عشرة آلاف دولار. لكن جاك ليمون لم ترقه الفكرة، فإذا ما انكشفت اللعبة وافتضح أمرهما ستكون النهاية، وربما عز عليه حرق المصنع ومعه ذكريات الأيام الخالية. وكان الحل الثاني هو الإعتماد علي فاسد آخر متخصص في تسويق البوار من البضائع والمنتجات، لكنه شخص مازوكي شاذ يشترط لعقد الصفقة أن يستحضروا له في فندق معين إثنتين من الساقطات. مع تصاعد الحبكة الدرامية للفيلم وفي عصبية وجه الشريك العجوزكلامه لجاك ليمون قائلا: لقد عشنا لسنوات طويلة نتكسب من وراء هذا المصنع ولقد استمتعنا من خلاله بالسلطة والثروة والشهرة فلماذا نفعل الآن كل هذا، ألم يحن وقت التقاعد ؟! وجاءت إجابة جاك ليمون الحاسمة: دعنا نستمر ولو موسم آخر ، موسم آخر لا أكثر. ولا زلت أتذكر كلماته تحديدا one more season وكأن لسان حاله يعلن أنه في مقابل موسم إضافي آخر ربما كان علينا أن نفعل أي شيء. أي شئ في سبيل البقاء وربما في سبيل الثروة التي لم نعد نحتاجها وربما السلطة علي العاملين معنا الذين بدأوا يتململون من هذه الإدارة الفاشلة لهؤلاء العواجيز وأفكارهم البالية التي دفعت بهما للخسارة والسقوط. بينما مشاهد الفيلم تستعرض سخط الناس في كل مكان وأزمتهم المالية وقلقهم علي القادم المجهول في ظل الفساد وشبح البطالة وارتفاع الاسعار، يخرج إلي الشارع جاك ليمون الذي مازال حائراً يفكر ماذا عساه يفعل لينقذ نفسه وشريكه، فإذا أمامه ناشط من أصدقاء البيئة يحمل كوبا معدنيا يجمع فيه التبرعات صائحاً: إنقذوا النمر... SAVE THE TIGER) ) وهنا ترتسم علي وجهه إبتسامة باهتة بينما تمتد أصابعه إلي الكوب المعدني ببضع سنتات، هذا كل ما يستطيعه لإنقاذ النمر والحفاظ علي البيئة، وكأنها لحظة الخلاص وقمة المفارقة، حيث يتظاهر بإنقاذ من لايعرفه ولايعني له شيئاً، بينما لم يستطع إنقاذ نفسه وشريكه ومصنعه وتورط في التآمر والخديعة حتي يبقي One more season موسم آخر لا أكثر، إنها السينما وهي السياسة أيضاً.