لو كان الامر يقتصر فقط علي اسعار اللحوم التي ارتفعت بصورة مذهلة.. لهانت المشكلة، فنصف المواطنين لا يتعاملون اصلا مع اللحوم إلا في الاعياد أو علي موائد الرحمن في شهر رمضان، ومن يملك القدرة علي تناول اللحوم يستطيع ان يتعامل مع البدائل من طيور واسماك. لكن المشكلة ان ارتفاع الاسعار يشمل كل شيء، حتي مع حالة الركود التي لا تقتصر علي مصر بل تشمل العالم كله!! الاهم من مشكلة اللحوم هو اسعار السلع الاساسية التي اصبحت فوق احتمال الغالبية العظمي من المواطنين.. بدءا من ساندوتش الفول وطبق الكشري إلي الزيوت والسكر والمكرونة والألبان. واذا كان جزء من هذا الارتفاع المطرد في الاسعار يعود إلي ارتفاع نسبة التضخم، فإن جزءا اخر يعود إلي غيبة السياسات التي تحكم الاسواق وتمنع الاحتكار الذي مازال يمارس ألعابه مستغلا الثغرات في القوانين أو التراخي في مواجهته.. والنتيجة اسعار تلتهب في كل شيء من الحديد إلي الطماطم، واعباء تتزايد مع ارتفاع تكلفة الخدمات الاساسية من مواصلات إلي كهرباء الي الدواء والدروس الخصوصية، وصيحات تطالب عن حق بتعديل الاجور، وحكم للقضاء يطالب الحكومة بحد ادني للاجور يوفر العيش الكريم للمواطن، وهو امر لن يكون تنفيذه سهلا في ضوء العجز الكبير في الميزانية والمخاوف من ارتفاع نسبة التضخم وزيادة الاسعار بصورة مخيفة، لكنه ممكن اذا صاحبته خطوات اهمها اعادة النظر في كل هيكل الاجور ووضع حد اقصي لها، والقضاء علي التفاوت الرهيب في المرتبات، والتحايل الذي يتم لتحقيق ذلك، لتجد من لا يزيد راتبه علي اربعة أو خمسة آلاف جنيه شهريا، يلهف ما يسميه حوافز ومكافآت تصل للمليون!! وتجد سكرتيرة في وزارة تأخذ اضعاف ما يتقاضاه وكيل الوزارة لانها علي ذمة صندوق خاص لا يخضع لقواعد ولا يتقيد بدرجات!! رفع الحد الادني للاجور امر لابد منه، وتعديل هيكل الاجور كله ايضا امر واجب، وجزء من تكلفة ذلك يأتي عن طريق وضع حد اقصي للاجور، ووضع قواعد للمكافآت والحوافز بحيث يكون الاجر هو اساس الدخل وليست المكافآت التي لا تخضع لقواعد.. وجزء آخر من تكلفة تعديل الاجور لابد ان تأتي من القضاء علي كل مظاهر الاسراف والفشخرة في الوزارات والمؤسسات العامة وايضا الخاصة لتصبح سلوكا عاما في المجتمع. ان قيمة المسئول لا تأتي من فخامة السيارة التي يركبها ولا من مظاهر الأبهة التي تحيط به، بل من جهده وعمله واحترام الناس لما يقدمه لبلده من خلال موقعه. الجانب الاخر الذي لابد من التعامل معه حتي لا تترجم اي زيادة في الاجور إلي زيادة اكبر في الاسعار، هو ضرورة اعادة الانضباط للاسواق وضرورة امتلاك الدولة لادوات التدخل التي تكفل حماية المواطن، بعد ان ثبت للعالم كله ان حكاية حرية الاسواق بلا ضابط امر غير مقبول، وقد يؤدي إلي كوارث كما حدث في الازمة المالية الاخيرة التي ضربت العالم، والتي جعلت الحكومات امريكا وكل الدول الرأسمالية الكبري تتدخل لانقاذ الموقف وتتخذ اجراءات وصلت لحد التأميم. ان من يرفع الاسعار في مصر في سلع اساسية »مثل الحديد والاسمنت« بحجة ان هذه هي الاسعار العالمية عليه ان يقبل ان يدفع لعماله اجورا بالمستوي العالمي لا ان يتركهم يستجدون وجبة للغداء!! وعليه ان يدفع ضرائب بالمستوي العالمي لا ان تكون نسبة ضرائبه مثل تلك التي احاسب انا بها!! وعليه ان يدفع ثمن الكهرباء والماء. وايضا الاراضي التي يأخذها من الدولة بالاسعار العالمية التي لا يمكن ان يكون فيها سعر الفدان خمسين جنيها وبالتقسيط المريح!! واذا كانت الدولة قد عادت للاهتمام بالمجمعات الاستهلاكية كوسيلة لضبط الاسواق واذا كانت تسعي لانشاء المزيد من المجمعات التجارية في كل انحاء الجمهورية، فإن ترك بعض السلع الاساسية في ايدي من يتلاعبون بالاسواق لم يعد ممكنا. لقد كانت الدولة لسنوات تقوم عن طريق اجهزتها وشركاتها بتوفير السلع الغذائية الاساسية من القمح واللحوم والزيوت وغيرها. ثم انسحبت الدولة وتركت الامر. للمستوردين.. فماذا حدث؟! اكلنا لحوم الحدادي والغربان علي انها ديوك رومية!! ودخل القمح الفاسد والاغذية منتهية الصلاحية!! وكاد اطفالنا يشربون اللبن بالاشعاع الذري لولا ستر الله وابلاغ الدول الأوروبية عن مستوردين للبن الاطفال الملوث!! وفشلت كل الجهود لردع مافيا استيراد اللحوم الذين يأتون بأسوأ انواعها وقبل انتهاء مدة صلاحيتها بأيام ليشتروها بابخس الاثمان. والذين افشلوا قبل ذلك صفقات استيراد اللحوم من اثيوبيا ويكررون الآن المحاولة، والذين يأخذون المفتشين علي حسابهم لكي يعاينوا اللحوم في البلاد التي يستوردونها منها وليعطونهم بالطبع شهادات الصلاحية ثم يعودون راضين.. مرضيين!! ان السؤال هو: لماذا لا تعود الدولة لتستورد عن طريق الشركات العامة السلع الاساسية والضرورية كالقمح والزيوت واللحوم بعد كل ما تم كشفه من تلاعب من جرائم في استيراد هذه السلع علي ايدي مافيا تعودت علي الكسب الحرام، واحترفت تزوير شهادات الصلاحية وافساد الموظفين الذين يراقبونها، وامتلك كل الامكانات لتمرير سمومها وضرب كل المحاولات لضبط الاسواق؟ لماذا لا نوفر المليارات من العمولات التي تحققها مافيا استيراد هذه السلع، ونضمن في الوقت نفسه ألا نأكل مرة اخري القمح بالحشرات ولحوم الحدادي والغربان؟ اسئلة لم تعد اجهزة الدولة تملك ان تتهرب من الاجابة عنها، مهما كانت الاسباب!! اخر كلام انها الجريمة مكتملة الاركان.. هذا ما تخرج به بعد ان تقرأ »المرئية« التي كتبها رجل الصناعة المهندس عادل جزارين عن صرح صناعي عظيم كان اسمه شركة النصر لصناعة السيارات هو الان رهن التصفية!! يروي الرجل في مقال له بالزميلة »الشروق« كيف نشأت الشركة قبل خمسين عاما وكيف استطاعت باقل الامكانات، وفي ظروف اقتصادية صعبة كانت تمر بها مصر، ان ترسي قاعدة حقيقية لصناعة السيارات، وان تصل بنسبة التصنيع المحلي إلي 56 في اللوري و07٪ في الاوتوبيس و24٪ في سيارات الركوب ، وان تصنيع محرك السيارة سعة 0051 سم مكعب، وان تتحول إلي صرح صناعي يعمل به 21 الف عامل، قبل ان توضع كهدف للخصخصة ويتم تقسيمها إلي عدة شركات تمهيدا لتصفيتها التي دخلت مراحلها الاخيرة.. حيث لم يبق فيها إلا 052 عاملا يبكون علي صرح صناعي عظيم كان يمكن ان يسد حاجة مصر الان ويصدر للخارج سيارة مصرية 001٪ ولهذا جري له ما جري، كما جري لقلاع صناعية اخري.. بعضها بيع للاجانب بأرخص الاسعار وبعضها برهن التصفية وبعضها نحاول الان انقاذه من هذا المصير!!