[email protected] انتهت الرحلة ووصلت إلي المحطة الأخيرة، أخيرا استراح القلب الطيب المملوء بالحب والعطاء لكل من حولها، للصغير قبل الكبير، وللضعيف قبل القوي، والبعيد المحتاج قبل القريب. لم تغضب من أحد حتي الذين استكثروا عليها نعمة العطاء والرضاء بما قسم الله لها، شديدة الكرم حتي مع الذين حرموها حقها، وأرادوا تخريب حياتها! لم تكن تشكو من شيء وليس لها تاريخ مع المرض حتي أسابيع قليلة مضت عندما اكتشف الأطباء وجود ثقب في القلب يودي بحياة من يولد به في الطفولة وفي أحسن الأحوال قبل مرحلة الشباب ولكن الحب هو الذي سد هذا الثقب وجعلها تعيش حتي استرد الله أمانته، ولم نكتشف تلك المفاجأة إلا مع تزامن إصابتها بجلطة في المخ أثرت تأثيرا مباشرا نتج عنها صعوبة التنفس وانخفاض نسبة الأوكسجين وحركة اليد ومع كل هذه الآلام كانت كلماتها دائما يارب.. الحمد لله. ما يقرب من الثلاثين عاما من الحياة المشتركة وزمالة الجامعة لم أعرف منها إلا الابتسامة المشرقة الجميلة الراضية، حتي في أحلك الظروف التي تواجهها أو تواجهني، قد تغضب أو تثور لكنها سرعان ما تعود إلي طبيعتها الأولي، كانت تعرف كيف تستدرجني إلي الحديث عن مشكلات تواجهني وأخفيها عنها حتي لا تحزن أو تغضب أو أكون سببا في إضفاء جو من الحزن حولها، ولكنها كانت تقرأها بسهولة في ملامحي. كم واجهت علي مدار هذه المرحلة من مصاعب في العمل أو غدر أصدقاء وأقارب، وكم مررت بظروف لم يكن الاستمرار فيها وتحملها ممكنا إلا بفضل وجود رفيقة حياتي، كانت تعرف كيف تستمع إلي وكيف تحول أعقد المشكلات إلي شيء عادي وكيف تجد العذر لكل مسيء بحيث تخفف عني واقع أي صدمة من الصدمات والأزمات والظلم الذي تعرضت له طوال الفترات الماضية، وقت أن كانت تخفف عني، كانت هي تختزن هذا الحزن والغضب حتي أصابها ما أصابها! كانت معي في كل خطواتي منذ أن ارتطبتنا وتعاهدنا علي أن يكون كل منا للآخر، إذا تأخرت في العمل لابد أن تتأكد ماذا فعلت فيه وهل وجدت دقائق للراحة، وهل تناولت طعاما، لم تكن قاسية معي في أي شيء أو أي موقف إلا فيما يتعلق بالصراحة والكرامة والأخلاق والصدق مع النفس في كل ما أفعل وما أكتب وما اتبني من وجهات نظر في مقالاتي، وكانت الوحيدة التي أخشاها بعد الله سبحانه وتعالي في كل ما أكتب وما أعلنه من مواقف في مختلف الاتجاهات والمجالات. كانت رفيقة العمر تحب الحق والعدل والصراحة والمواجهة، تكره النفاق والمنافقين والخيانة في كل أشكالها، ولم تكن تتمني أن تري ذلك في الحياة، وكانت هذه ثوابت ومنهج حياة تتخذه في تفاصيل حياتها مع الأسرة والأصدقاء والجيران والعمل، وكثيرا ما كانت تتدخل بنفسها في مشكلات لأن هناك إنسانا مظلوما ويتعرض لاضطهاد من أي نوع وكثيرا ما تحزن لأن هناك إنسانا محتاجا لمساعدة ولا تستطيع تقديمها له. كان يسؤها أن تري الشباب الذي يعاني من البطالة ويتمزق بحثا عن عمل أو أمل، تحس بكل هذا وتحافظ علي هدوئها لتوفر لشريك حياتها المناخ الذي يعوضه متاعبه، وكانت دائما كالطفل لا تأمن علي نفسها إلا بجواري حتي في أبسط الموضوعات، لم تنقطع اتصالاتنا أثناء مهام السفر التي كنت أقوم بها لأيام معدودة، أو حتي أيام العمل العادية، كانت تطلب مني ان اطمئنها فور وصولي إلي أي بلد ولكنها لم تمنحني هذه الفرصة أبدا، لأنني كنت أفاجأ باتصالها في أول لحظة افتح فيها تليفوني بعد الهبوط أو الوصول، وكأنها تري الرحلة أو كأنها حسبتها بالدقيقة والثانية وتتكرر اتصالاتنا علي مدار اليوم، واصفا لها ما شاهدت وما أنجزت وأسألها عما تحتاج وكان ردها دائما السلامة وكفي! وأخيرا ظهر ما تأجل لسنوات طوال. فجأة شعرت بتسارع ضربات القلب وصعوبة التنفس لننقلها إلي المستشفي ولم أعرف ان النهاية تسرع وأن جهود الأطباء لا طائل من ورائها، اكتشف الأطباء الثقب في القلب الذي ظل مختفيا كل هذه السنوات وبدأ يؤثر علي دورة الأوكسجين في الدم وسريعا سريعا بدأت رحلة التدهور يوما بعد يوم، كلما عالج الأطباء شيئا ظهر غيره وكأن الجسد بناء يتعرض للانهيار جزء وراء الآخر! لم تكن يدي تترك يدها وهي تحت وصلة جهاز الأوكسجين ترد علي ما أحكيه لها بالابتسامة الرقيقة الراضية أو بإيماءة خفيفة وقليلا ما كانت تقوي علي نطق حرفين من كلمة أقول لها »أحبك فترد وأنا ...« ولا تستطيع إكمال الجملة ولكن الابتسامة تقول كل شيء، ومع صعوبة التنفس وضعت تحت جهاز التنفس الصناعي وبدأت تغيب عن الوعي ليلة كاملة قضيتها حتي الساعات الأولي من الصباح وعدت بعد ساعات، شعرت بأن هناك شيئا ما، فالصدر به حركة التنفس الصناعي المتصل بأنابيب في الفم والأنف وأجهزة متصلة بباقي الجسد.. ناديت علي الطبيبة التي أجابتني بكل تسليم البقاء لله. صرخت رافضا لا.. فالقلب لازال ينبض والتنفس موجود، لكن الطبيبة كانت متأكدة مما تراه وأنا الذي كنت أري ما تمنيته.. كنت أتمني ألا أري هذا اليوم وتلك اللحظات القاسية أبدا عندما حدث تصورت ان الجسد الساكن مازال ينبض بالحياة، كما ان الابتسامة المشرقة الواضحة علي وجهها ساعدت علي خلق هذا الوهم الذي تصورته! لم يسبق ان عشت تجربة احتضار الكثيرين من الأعزاء الذين فارقوني وكنت استغرب مما يقوله كثيرون عن شخص كان مبتسما وجميلا وراضيا لحظة رحيله، ولكنني في رحيل رفيقة الحياة عرفت ان الموتي يبتسمون أحيانا ويتركون البكاء لأحبائهم الذين تركوهم وراءهم في دار الباطل. كتبت هذه الكلمات بدموعي فليسامحني القراء الأعزاء أني شغلت هذه المساحة لشأن شخصي فعذري أنني طوال حياتي العملية لم أفعل ذلك قط، ربي إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه.