لم يفلح الرئيس الامريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في منع صحيفة »نيويورك تايمز« الامريكية من نشر »وثائق البنتاجون« حول الحرب الامريكية في فيتنام. وكان موظف في الإدارة يدعي »دانيل الزبيرج« قد قام بتسليم هذه الوثائق للصحفي »نيل شيهان«. وقد أدي نشرها الي تفجير عاصفة مدوية في الولاياتالمتحدة. وطلب نيكسون ملاحقة الزبيرج والصحفي، وقال أن الأول هو مجرد »مناهض شرير للحرب«.. كما جاء في تسجيلات فضيحة »ووترجيت«.. ولكن المحكمة العليا الامريكية اصدرت حكمها التاريخي الذي يتجاهله المسئولون الامريكيون الان. وكان ذلك الحكم بمثابة نقطة تحول، وجاء فيه: »الصحافة الحرة غير المقيدة هي وحدها القادرة علي ان تفضح خداع الحكومات«.. والعاصفة التي تهب الآن في الولاياتالمتحدة والدول التي تدور في فلكها..، في محاولة لاقتلاع وتصفية موقع »ويكيليكس«، تؤكد الحاجة للدفاع عن حق وسائل الإعلام في الكشف عن الحقيقة وعن خداع الحكومات.. وصدق من قال إنه في السباق بين السرية والحقيقة، فان الحقيقة هي الفائزة حتما.. علي الدوام.. وقد نشأ »جوليان اسانج«، مؤسس موقع »ويكيليكس«، في بلدة ريفية استرالية هي كوينزلاند، حيث اعتماد الناس ان يتحدثوا بلغة الصدق ويعبروا عن انفسهم بصراحة.. فقد كانوا يعتقدون ان الحكومة »شيء« يمكن ان يصيبه الفساد إذا لم يخضع لمراقبة دقيقة.. وحلت الأيام المظلمة التي سيطر فيها الفساد هناك عندما تم منع وسائل الإعلام من نقل الحقائق. وقد كان لتلك التجارب والدروس تأثيرها في أعماق الصبي »جوليان اسانج« الذي يقول الآن ان ويكيليكس تأسست وفق هذه القيم الجوهرية. ويضيف قائلا: »الفكرة كما حملناها معنا من استراليا هي ان نستخدم تكنولوجيات الانترنت بطرق جديدة لنقل الحقيقة. وهكذا ابتكرت ويكيليكس نمطا جديدا من الصحافة: الصحافة العلمية،.. ذلك أننا نعمل مع منافذ اعلامية أخري لكي ننقل الأخبار إلي الناس، ونحرص علي ان نبرهن علي أنها اخبار صحيحة وصادقة.. فالصحافة العلمية تتيح لك ان تقرأ الواقعة أو الرواية الخبرية ثم تضغط علي مفتاح في الشبكة الالكترونية لكي تري بنفسك الوثيقة الاصلية التي تؤكد صدق وصحة الرواية الخبرية، والتي تستند اليها هذه الرواية. وبهذه الطريقة نستطيع ان تصدر حكمك وتقسيمك للخبر بنفسك: هل الرواية صادقة؟ هل نقلها الصحفي بدقة وأمانة؟ ويري جوليان اسانج أن المجتمعات الديمقراطية في حاجة إلي إعلام قوي وان موقع »ويكيليكس« جزء من هذا الإعلام الذي يساعد علي ان تكون الحكومات نزيهة. وقد كشف هذا الموقع بعض الحقائق الخطيرة حول حربي العراق وافغانستان وحول فساد الاحتكارات. ويدعونا »جوليان اسانج« بعد الاطلاع علي هذه الحقائق وقراءة برقيات السفارات الامريكية الي ان نفكر في مدي أهمية ان تكون كل وسائل الإعلام قادرة علي نقل هذه الحقائق بحرية. وهناك من يري ان الإعلام التقليدي فشل في إطلاع الجمهور علي الحقائق، خاصة في ظل عوائق قانونية كثيرة تحول دون الصحفيين ومتابعة اخبار ووقائع وأحداث تخدم مصالح الناس، وكذلك في ظل هذا الولع الجنوني بالسرية. وتكفي الاشارة الي ان الربع مليون وثيقة التي نشرها موقع »ويكيليكس« مؤخراً لا تمثل سوي قطرة في محيط ال 61 مليون وثيقة المصنفة علي أنها »سرية للغاية« كل سنة بواسطة الحكومة الامريكية.. وتقول صحيفة »واشنطن بوست« الامريكية ان حوالي 458 الف شخص يتولون مسئولية الحفاظ علي المعلومات السرية.. وهذا العدد اكبر من سكان واشنطن مرة ونصف.. وتضيف الصحيفة أن العالم السري للغاية الذي خلقته الحكومة الامريكية - خاصة بعد 11 سبتمبر 1002 - اصبح متضخماً إلي الحد الذي يجعل التعامل معه صعبا، وهو عالم يكتنفه الغموض بحيث لا يوجد من يعرف كم يتكلف من الأموال وعدد البرامج التي يعتمد عليها وعدد الوكالات التي تؤدي نفس مهمته.. وكل صحفي شريف في أمريكا يعرف أنه معرض لاجراءات قانونية عدوانية مضادة، وخاصة علي يد مؤسسات كبري خاصة وعامة مما يضاعف المصاعب التي تواجهه في طريق اداء وظيفته. والزعم بان »ويكيليكس« تشكل خطراً علي الممارسات التقليدية للعمل الإعلامي بتجاهل ما فعله »اسانج« ورفاقه، وهو صنع اداة قوية يمكن ان تساعد الصحفيين علي تخطي الحواجز القانونية التي تعترض مسعاهم للقيام بمهامهم. وقد أعترفت منظمة العفو الدولية في العام الماضي بجهود »اسانج« في الدفع عن حقوق الانسان ومنحته جائزة الاعلام بسبب تحقيقات »ويكيليكس« التي قامت بتوثيق عمليات اختفاء وقتل خمسمائة شاب في كينيا علي يد الشرطة وتواطؤ القيادة السياسية للبلاد في التغطية علي هذه الجرائم.. والتسريبات قد تحمل المسئولين هنا وهناك علي التزام خطاب سياسي واحد في السر والعلن، كما ان التعتيم السياسي ليس هو الافضل في العلاقات الدولية اذا كانت هذه العلاقات لخدمة السلام والعدل والحرية.. وهنا يجب التذكير بان موقع »ويكيليكس« لا يهدف الي الربح، ويمول نفسه بنفسه عن طريق التبرعات. كما لو كان هذا الموقع يعيد كتابة التاريخ، فالوثائق تكشف الأول مرة بوضوح، ومن خلال وقائع مثيرة، نظرة الولاياتالمتحدة إلي العالم سواء حلفائها أو أعدائها.. فوزارة الخارجية الامريكية تطلب من الدبلوماسيين في سفاراتها بالخارج جمع معلومات مفصلة عن بطاقات الاعتماد المالية وأرقام الفاكس والبريد الالكتروني وهواتف الممول ومواعيد العمل..وجمع معلومات عن المواقع العسكرية والاسلحة والحصول علي بصمات شخصيات سياسية وصور لقرنيات عيونهم والحمض النووي لكل منهم! وتحتوي الوثائق علي أوصاف غريبة لقادة وزعماء .. مثلا: رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين يشبه -حسب الوثائق- كلبا من فصيلة »الفا« - الذي يتزعم القطيع - »وفحلا قويا« والرئيس الافغاني حميد كرزاي »مصاب بجنون العظمة«، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي »امبراطور عار - بلا ملابس« - وتطلب الخارجية الامريكية من دبلوماسييها فحص ما إذا كانت رئيسة الارجنتين »متوازنة نفسياً ولا تتناول مهدئات!«.. وثائق ويكيليكس تكشف تهاوي الامبراطورية الامريكية وخمود القوة العظمي وتهافت قادتها. قبل ان يتم القاء القبض في بريطانيا علي جوليان اسانج.. اتسع نطاق الحملة الهستيرية ضد الرجل. فقد اتهموه بالخيانة، رغم أنه استرالي وليس مواطنا أمريكيا، وترددت عشرات النداءات في الولاياتالمتحدة التي تطالب القوات الخاصة الامريكية باختطافه! ودعت »سارة بالين«، المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس الامريكي عن الحزب الجمهوري الي اصطياد »اسانج« مثلما هوالحال بالنسبة لاسامة بن لادن (!) وثمة مشروع قرار جمهوري أمام مجلس الشيوخ الامريكي لاصدار بيان يعلن آن »اسانج« يشكل »خطراً عابراً للقارات« (!) ويجب التخلص منه (!!).. وطالب مستشار لمكتب رئيس الوزراء الكندي باغتياله! وقال عضو الكونجرس (جمهوري) »بيتر كنج« ان نشر البرقيات الدبلوماسية السرية اسوأ من وقوع هجوم عسكري علي الامريكيين! ودعا »مايك هاكابي«، المرشح السابق للرئاسة الامريكية، الي إعدام برادلي مانينج (عريف كان مجندا في سلاح الاستخبارات الامريكي، كلف بمهمة في بغداد، ويوجد الان في زنزانة السجن الانفرادي بقاعدة عسكرية في كوانتيكو بولاية فيرجينيا الامريكية، وتم اعتقاله بتهمة تسريب ما يزيد عن 051 الف وثيقة و 09 تقريراً استخبارياً).