تابعت الكتابات والدعوات والنداءات التي تجددت هذه الأيام للمطالبة بوحدة وادي النيل، ويقصدون بذلك وحدة مصر والسودان، وهي بالأصح تعني وحدة مصر والسودان الشمالي، ذلك أن كل الذين تصدوا للدعوة من السودان من أهل الشمال، وأكثرهم إن لم يكن كلهم قد وصلوا إلي قناعة بأن انفصال الجنوب عن الشمال أصبح مسألة وقت ليس إلا، بعد أن حسم الجنوبيون أمرهم، وحزموا حقائبهم في انتظار الإعلان الدستوري لقيام دولة الجنوب في التاسع من يناير المقبل عقب اجراء استفتاء تقرير مصير جنوب السودان، حتي أن كثيرين من الجنوبيين الذين يدعون للانفصال يطالبون بإعلان الدولة الجديدة صبيحة التاسع من يناير وقبل ظهور نتيجة الاستفتاء، ذلك أن المسألة بالنسبة لهم تحصيل حاصل. ولهذا فإن الوحدة التي ينادي بها هؤلاء هي وحدة بين مصر وشمال السودان، ومما يعزز تفسيري هذا أن أول ظهور لهذه الدعوة قبل بضعة شهور كان محاولة للرد علي دعوة الانفصال التي كان ينادي بها بعض الجنوبيين، ولم تكن وقتها دعوة الانفصال قد وصلت هذه الدرجة من الرواج وسط القواعد الجنوبية. ولعل بعض القراء يكونون قد تابعوا ما كتبته وقتها في الصحافة السودانية والمصرية، في صحيفتي "الأخبار" المصرية و"الوطن" السودانية، وقلت إن الوحدة مع مصر لن تعوضنا في الدولتين فقدان جنوب السودان إذا انفصل. ومعلوم أن اهتمام مصر بوحدة السودان لا يقل عن اهتمام السودانيين بوحدة بلدهم، ومصر كانت الدولة الوحيدة التي أعلنت موقفاً رافضاً لتقرير المصير، رغم إقرار كل القوي السياسية السودانية به. ولقد ارتضت مصر أن تفقد دوراً محورياً في مفاوضات سلام نيفاشا حتي لا تشارك في إقرار حق تقرير المصير، الذي كانت تري أته سوف يكون المدخل إلي تقسيم السودان، وأعترف أني بذلت جهداً كبيراً في إقناع بعض الأصدقاء المصريين من المهمومين بقضايا السودان، والعاملين في ملفه، فشلت في إقناعهم بأن حق تقرير المصير يمكن أن يكون طريقاً لتعزيز وحدة السودان، وتأكيدها، ولم أكن أتوقع أن يصل بنا الفشل لهذه الدرجة التي تجعلنا قاب قوسين أو أدني من الانفصال، بسبب سوء إدارتنا للعلاقة بين الشريكين أولاً، ثم بين الشمال والجنوب ثانياً خلال الفترة الانتقالية، وصار اليوم أملنا الوحيد في الوحدة اتفاق سياسي يتوصل إليه الشريكان في الدقائق الأخيرة، أو معجزة إلهية تهدي الذين يحق لهم التصويت إلي ما فيه صلاح البلاد والعباد. وفي مثل هذه الظروف التي أصبحت فيها وحدة السودان في (كف عفريت) لا يكون الحديث عن وحدة السودان ومصر مغرياً ومشجعاً، ويمكن أن نقول إنه غير مطلوب كذلك، وسيظل مجرد أماني وأحلام. فنحن في السودان فإن مصر لن تكون بديلاً لنا عن إخوان الجنوب. وبالنسبة للإخوة في مصر فلن يكون حافزاً لهم أن يتوحدوا مع الشمال دون الجنوب. والذين يتابعون الأمر يجدون أن مصر التي ظلت حريصة علي وحدة السودان في كل المراحل، ودخولها الفاعل للتقريب بين الشريكين كلما تباعدا، ظلت تحتفظ بمساحات متوازنة بين الجنوب والشمال، وهذا هو الذي مكنها من النجاح في مهام التقريب بين الشريكين في قضايا فشل فيها غيرها. أما إذا ما سعت إلي وحدة جزئية فإنها سوف تفقد امتيازاتها التفضيلية عند السودانيين في الجنوب والشمال والجنوب معاً، ونكون بذلك قد خسرنا أكثر مما نكسب. ولأني أثق في نوايا كل الأخوة الذين قدموا هذه المبادرة للوحدة بين السودان ومصر، وأعرف بعضهم معرفة كبيرة من خلال ما يجمع بيننا من قواسم مشتركة عديدة، وفي مقدمتهم آخر الطارحين لهذه المبادرة بقوة أخي وزميلي وصديقي الأستاذ مصطفي أبو العزائم رئيس تحرير صحيفة آخر لحظة السودانية، الذي أعاد طرح المبادرة وروج لها، وأعرف صدقهم وجديتهم، فإنني رغم قناعتي وإيماني بوحدة وادي النيل، لكنني أري في هذه اللحظة الدعوة لوحدة السودان ومصر خياراً ثانياً، والخيار الأول، والمنطق المعقول هو تعزيز الثقة بين مصر وكل السودان، شماله وجنوبه، وتعزيز أواصر الترابط، ووسائل التواصل المختلفة، فلتكن المبادرة لتعزيز التواصل المصري السوداني عبر مشروعات ووسائل عديدة اقتصادية وثقافية واجتماعية وغيرها. وليشمل هذا التواصل الجنوب والشمال معاً. وهذا يقتضي أن يستوعب هذه المبادرة ناشطون ومؤمنون وفاعلون من الجنوب، بذات القدر الذي ينشط فيها فاعلون من الشمال، ويفضل أن ينشط فيها آخرون من مناطق السودان التي تشهد بعض التوترات والصراعات، مثل دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.