الفساد طبيعة بشرية خبيثة وقديمة.. وقد لعنتها كل الاديان وكل الشرائع وكل الفلسفات.. وكل الحكومات.. والفساد في العالم استشري في السنين الأخيرة.. الصحافة حذرت وكثير من الكتاب الشرفاء دقوا ناقوس الخطر.. ولكنهم اتهموا بأنهم حاقدون وموتورون إلي آخر القائمة. والإعلان عن ضرورة مقاومة الفساد هو اعتراف صريح بوجود فساد وهو أمر لم نكن نسمعه من قبل والاعتراف بوجود المرض هو الخطوة الأولي الصحيحة والسليمة لعلاجه.. وفساد المحليات في مصر قديم.. منذ أيام الفراعنة وحكاية الفلاح الفصيح دليل علي ذلك وقد كان الفراعنة علي درجة من الشفافية جعلتهم يسجلون هذه الحكاية علي ورق البردي ضمن نصوص الاهرامات. وتتلخص في قيام أحد الحكام المحليين بمصادرة قطيع أغنام أحد الفلاحين وفشل الفلاح المسكين في استرداد قطيعه ولم يجد بدا من السفر سيراً علي الاقدام الي منف وجلس تحت نافذة الفرعون يحكي بصوت عال ابعاد مأساته ويتحدث عن اهمية العدل وكيف ان ارساء قواعد العدل هي الاساس المتين للحكم الصالح وهي الدور الاساسي للحكومة النظيفة وسمعه الفرعون وطلب أن يتركوه يتكلم حتي يتعلم منه ويستفيد من صدقه بعد أن أغمي عينيه نفاق المحيطين به ثم أعاد له حقه واعدم الحاكم الذي ظلمه. واقع الفساد في العالم اليوم أصبح مخيفاً وسكوتنا علي هذا الوباء الخبيث اتاح له الفرصة للنمو والانتشار هذا الواقع الكئيب يدفعني دفعاً للهروب الي الماضي السحيق فقد أجد وقد تجد معي فيه بعض العزاء. علي ضفاف نهر الفرات في العراق عاشت وازدهرت حضارة هي من أعظم الحضارات في التاريخ وهي حضارة بابل.. وقد حكم بابل حاكم عظيم يذكره التاريخ والمؤرخون باعجاب شديد وباحترام أشد منذ 4 آلاف عام وحتي اليوم هذا الحاكم هو الملك حمورابي.. وقد جاءت عظمته لا بسبب فتوحه ولا حروبه ولا طول مدة حكمه فقد حكم 54 عاماً ولا باصلاحاته وأنما جاءت عظمته بسبب شرائعه فقد وضع حمورابي أول وافضل قانون منظم ومكتوب عرفته البشرية وقد سجله علي الحجر حتي أمكن العثور عليه في عام 2091 كاملاً هذه الشرائع كانت المصدر الذي أخذ منه اليونان والرومان والعرب معظم النصوص القانونية بل ونقلت أوروبا عن كل هؤلاء معظم النصوص القانونية التي تتعامل بها جميع المحاكم في العالم حتي الآن. هذا القانون نفسه كان الاساس الذي أخذه اليهود فقد قام أحد أحفاد حمورابي بهدم أورشليم وذبح جميع اليهود ذبحاً ومن بقي منهم أخذهم اسري عبيد إلي بابل وهناك قام أحبارهم بتأليف الشروح الشهيرة للتوراه البابلية وقد استمدوا كل نصوصها تقريبا من شرائع حمورابي.. أنا لن استطيع هنا أن أعرض لكل مواد الشرائع فهي 582 نصا ولكني أعرض لمادة واحدة سجلها حمورابي في شرائعه التي امر بتسجيلها علي الحجر في عام 0012 قبل الميلاد المادة الأولي قامت علي قانون القصاص يقول »إذا ضرب رجل اباه جوزي بقطع يده وإذا تسبب طبيب أثناء جراحه في موت مريض أو فقد عين قطعت اصابع الطبيب وإذا استبدلت قابلة طفلا بآخر عن علم بفعلتها قطع ثدياها ويحكم بالموت علي من يرتكب هتك العرض وخطف الأطفال وقطع الطريق والسطو والفسق بالأهل وقيام المرأة بقتل زوجها لتتزوج بغيره وسوء استعمال سلطة الوظيفة واهمال الزوجة شئون بيتها أو سوء تدبيرها والغش« والزمت هذه الشرائع الدولة بتحديد اثمان السلع والأجور والاتعاب وأجور الجراحين والبنائين وضارب الطوب والخياطين والنجارين والرعاه والبحارة والفعلة.. هذه سطور من كتاب كبير وليت الذين يتحدثون اليوم عن الفساد في العالم. ولله الأمر