الانحراف وأن كان ندره في الوسط القضائي، فانه ينمو مع وباء الفساد ويزيد من القضايا لمقاومته، أما اسبابه فغالبيتها يرجع إلي دواع مادية، شديدة القسوة علي النفس العزيزة وبخاصة في مجتمع حديث العهد بكثرة المال. وصعود طبقة عديمة التقدير، تنفق ببذخ مستفز تبعث علي الحسرة والشفقة معا. غير أن أهم الاسباب ترجع إلي النشأة الأولي وابتعادها عن حسن التربية وسلامة البيئة الخلقية والفيريائية، مما يحث النفس علي الهيام وعدم الرضا. وتضفي عليها الاحباط وغالبا ما يلازم المراء ردحا من الزمن- وقد لاتزول أثاره كاملة. وبالرغم من ذلك فأن الوقاية خير من العلاج، والحماية أفضل من التحريم والواجب حتما ألا ينشغل بال رجل القضاء بمتطلبات الحياة الاساسية، وهو بطبيعة عمله، وسيرة حياته، ليس من المسرفين، وليس من الغريب ان نري القاضي الانجليزي يمنح شيكا رسميا موقعا علي بياض، لينفق منه علي احتياجاته المعقوله أو الضرورية، ويكفي شعوره بالامان ضد الاحتياج، حتي لايتشوش باله، ويتعكر صفاء ذهنه. فان كان في ذلك التقليد مبالغة مستمدة من واقع بلاده، الا ان الشخص الذي يؤتمن علي نشر العدالة، واطلاق احكامه بغير قيد- هو خليق بأن يؤتمن علي تصرفاته الشخصية. فليس للقاضي ان يستدين مثل عامة الناس، ومحظور عليه ان يشترك في أي عمل تجاري يستكمل به نفقات معيشته واعالة أسرته، وبالتالي علي الدولة ان تحصنه ضد اغراءات المال والهوي حتي يقال عنه بحق انه: »الفضل يمشي علي قدمين« وهنا يضيف الكاتب وصفه بأنه: »راهب خارج الاديرة«! أما الأمر الآخر، والاكثر أهمية وصعوبة في الكشف عنه، فهو التحصن ضد شبهة الانحراف وذلك قبل ان يكلف القاضي بمهمته الخطيرة. فالواجب تحري الدقة عند اختيار السلك القضائي بتوافر عنصري الفضل والكفاية. وفي ذلك قال احد عمالقة القضاء، انه في الاسلام ان »المنفرد في الجماعة بالكفاية تلزمه ولاية القضاء.. فرض عين. فاذا تعددت الكفاءات، فولاية الاكفاء مستحبة، وولاية الضعفاء مكروهة«. كمالا يكفي في القاضي ورع بلا علم، أو علم بلاورع. فالقاضي ورع وعلم معا. هكذا يقول العلماء. فعن العلم يقول الشاعر معروف الرصافي، وقدشق عليه ان تعيش امته متخلفه عن مواكب الحضارة والرقي، فراح يدعو إلي العلم لجميع طبقات المجتمع ويخاطب المتفاخرين بأصولهم بقوله: وما يجدي افتخارك بالاوالي.. اذا لم تفتخر فخرا جديدا. لذلك نوعت السلطة القضائية دوائر قضائها، وعينت بها قضاة متخصصين، يمحصون التفاصيل الفنية، باعتبار ان التخصص هو الاحاطة بكل الاركان التي يبني عليها الحكم، وذلك هو الاقرب إلي الصواب والعدل. والمهم هو مرحلة اعداد القاضي قبل تعيينه بتقبل انواع التخصص واختباره له ثم تأتي مرحلة التدريب التي يجب الا يعتمد فيها كليا علي ما يقدم اليه من ارشادات بل يجب ان تواكبها دراسات مستقله، لم يسمح به زمن الاعداد والتدريب، ولكن بالامكان تحصيلها وتغذية القرائح بها. ومثال ذلك الدوائر الخاصة بالايجارات والتي يجب الالمام بالحالة السكنية ونوعيات العقارات ومختلف عقود الايجارات، كذلك الدوائر التجارية التي تستلزم دراسة الاسواق ونوعيات الاتفاقات الدولية والقوي المحركة للتجارة، والقوي القاهرة لها. كذلك دوائر للأسرة التي تتطلب دراسات انسانية وصحية، غاية في الحساسية، بخلاف الدوائر الخاصة بكل من: الجرائم المالية وجرائم الترهيب وجرائم القتل العمد أو الخطأ والغش التجاري والصناعي وزيارة المعاهد العلمية والمعامل الجنائية، ليتعرف القاضي عليها حتي يقف علي احدث الخطوات الكشفية- ظاهريا، كانت او كيمائية أو بيولوجية. وان يفرد لكل تلك الدوائر قسم خاص بوزارة العدل. مزود بالفنين، ليس فقط للرقابة، بل للتوجيه ورفع مستوي المعرفة، خدمة للعدل. مما يبعث ثقة القاضي في نفسه ووضوح قناعتهم بما يطرح علي منصته من قضايا. وللحديث بقية.. كاتب المقال رئيس الجمعية المصرية لرعاية مرضي السكر