تلقيت دعوة كريمة من مهرجان تطوان السادس للمسرح المتعدد في المغرب بمناسبة اختيار مصر بلد المحور في هذه الدورة والاحتفال بالمسرح المصري وأيضا القاء محاضرة عن تأثير المسرح المصري في المسرح العربي باعتباره الرائد الذي قاد حركة التنوير منذ بدايات نشأة فن المسرح في المنطقة العربية .. وقد وجدت انه من الأنسب أن أعود للتاريخ الفرعوني حيث بدايات ظهور فن المسرح خاصة انني مع الاتجاه القائل بأن اليونانيين الذين ينسب لهم المسرح أخذوه من مصر الفرعونية ثم طوروه بشكله الحالي نظرا للعلاقات التي كانت تربط بين مصر واليونان في ذلك الوقت .ويؤكد الكاتب السوري (علي عقلة عرسان) أن النشأة الأولي للفن المسرحي تمت علي أيدي المصريين إلا أن اكتمال هويته واستقامة بناء نصوصه الدرامية تمت علي أيدي الإغريق.. إذ يقول: أما المسرح كفن له تقاليد وأعراف ومميزات خاصة له فعالية معينة تتم بأساليب أداء محددة فلم تبدأ بعض ظواهره الموفقة إلا عند المصريين القدماء ولم تكتمل هويته ويتكامل بناء نصوصه الدرامي إلا عند الإغريق رغم ما يوجد من انفصال بين النشأتين .. وحاول عرسان عن طريق القرائن والوثائق التي وجدت في مصر القديمة أن يثبت وجود مسرح مصري نستطيع عن طريق قراءة نصوصه أن نعرف الكثير عن حياة المصري القديم وحضارته ومعتقداته. واستعان عرسان بالأدلة التاريخية والاقتصادية ليعزز فكرته مثبتاً أن صلات التبادل التجاري والثقافي كانت قائمة بين المناطق التي تشمل حوض البحر المتوسط وبحر إيجه وبلاد ما بين النهرين .. فالتأثير كان متبادلاً بين مصر القديمة واليونان وقد ظهر ذلك التأثير عن طريق التبادل التجاري والتزاوج وأدي الاحتكاك بين البلدين إلي تبادل التأثير في الحياة الثقافية والاجتماعية وفي العبادة الدينية .. ويري أن الإقرار بأن الإغريق أول من عرفوا المسرح يعدّ تجنياً علي الحضارة العربية والسامية من فينيقية وبابلية. وهناك من يؤكد أن الفكر الفينيقي والمصري كانا رافدين من روافد الفكر اليوناني إذ يري الناقد العراقي يوسف سامي اليوسف أن الفكر اليوناني لم يكن جذر الفكر الإنساني. بل يري أن تمجيد أوربا الغربية للحضارة اليونانية والإعلاء من شأنها يعود الي غرض ما ..علّه إظهار كره وحقد علي الشرق إذ حاول الأوربيون أن يثبتوا انتسابهم إلي الأمة الإغريقية وأنكروا ما جنوه من الحضارة العربية وقد رأي من الناحية التاريخية أن الحضارة أول ما بدأت وازدهرت في الأناضول الغربي ثم راحت تعبر البحر اليوناني وإيطاليا الجنوبية، مثبتاً في ذلك أن الإغريق ليسوا أول من عرفوا الآداب والفنون ومنها المسرح. ولعل ما أشار إليه سامي اليوسف من فضل للشرق علي الحضارة اليونانية ومن ثم الحضارة الغربية فيما بعد وجدناه مسهباً في قصة الحضارة وذلك عندما تحدث (ديورانت) عن فضل الشرق الأدني وحضارته فقال: وقصاري القول أن"الآريين" لم يشيّدوا صرح الحضارة بل أخذوها عن بابل ومصر وأن اليونان لم ينشئوا الحضارة إنشاءً لأن ما ورثوه منها أكثر مما ابتدعوه وكانوا الوارث المدلل لذخيرة من الفن والعلم مضي عليها ثلاثة آلاف سنة وجاءت إلي مدائنهم مع مغانم التجارة والحرب فإذا درسنا الشرق الأدني وعظمنا شأنه فإنا بذلك نعترف بما علينا من دين لمن شيدوا بحقٍ صرح الحضارة الأوربية. ومن ناحيتي أري أن الإغريق تأثروا علي الأغلب بالمسرح الذي كان معروفاً في مصر القديمة ولكنهم لم يقفوا عند حدود التأثر بل طوروا المسرح وفي الوقت الذي ظل فيه المسرح في مصر القديمة منعزلاً داخل أسوار المعابد كان المسرح في بلاد الإغريق يتطور ويخرج إلي الناس ولذلك ازدهر المسرح عند الإغريق، وانحسر في مصر القديمة. ولعل المعتقدات الدينية عند الكهنة في مصر القديمة ساهمت في عدم ازدهار فن المسرح . . إن المصري القديم علي الرغم من توفر عنصر الدراما في أساطيره لم يستطع أن يتجاوز دائرة الدين ويخرج إلي الحياة الاجتماعية كما هو الحال عند الإغريق الذي انفصل عن دائرة الدين وخرجت الدراما من المعابد. ولهذا كله من السهل أن نتصور كيف أمكن أن يتطور المسرح الإغريقي من مجال الدين والآلهة وأساطيرهم إلي مجال الإنسان وحياته ومجتمعه وذلك لأن الآلهة لم تكن في الواقع إلا بشراً وإن تضخمت أبعادهم وفاقت قوتهم وذكاؤهم قوة البشر أما عند المصريين القدماء فإن الهوة كانت سحيقة بين عالم الآلهة وعالم الإنسان علي نحو لم يستطع أن يتخطاها الفن المسرحي بفرض وجوده في عالم الآلهة وعالم الأساطير .