ما حدث في العراق قد يكون تسوية مؤقتة. ومن الناحية الشكلية.. يوجد الآن رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة ورئيس للبرلمان، الذي اجتمع لأول مرة منذ انتخابه قبل حوالي ثمانية أشهر. أما من الناحية الواقعية، فإن ما نشهده هو »محاصصة طائفية«، أي توزيع طائفي ومذهبي وعرقي للمناصب علي مجموعة من الأشخاص الذين يتزعمون عدة تكتلات عرقية ودينية ومذهبية. وهكذا تم اختيار كردي- سنّي لمنصب رئاسة الجمهورية وعربي شيعي لرئاسة الحكومة، وعربي سنّي لرئاسة مجلس النواب، ونائبين له، أحدهما عربي شيعي، والثاني كردي سنّي. انها عملية »لبننه«، أي ان النموذج اللبناني يجري استنساخه في العراق ليصبح الدولة العربية الثانية التي يقام فيها نظام علي أساس الدولة الطائفية والمذهب وليس الدولة.. الأمة. ولا مكان، في ظل هذه الأوضاع، لوحدة العراقيين أو عروبة العراق.. فالتقسيمات الطائفية والمذهبية والعرقية والعنصرية التي ترتكز عليها عملية توزيع المنافع وتقاسم الغنائم والمناصب المراكز والنفوذ.. هي أساس كل شئ، كما يحدث الآن في دول عربية أخري مما يوفر ذريعة للمنطق العنصر الاسرائيلي. وشيئا فشيئا تصبح عبارة »الشعب العراقي« أو »الأمة العراقية« بلا معني أو مضمون، وكذلك فان أي حديث عن عروبة العراق يتحول إلي كلام أجوف. وهذا هو »الانجاز« الرئيسي الذي حققه الغزو الأمريكي للعراق، إلي جانب استدعائه لتنظيم »القاعدة« الإرهابي لكي يعربد في انحاء العراق، ولم يكن له وجود في ظل النظام العراقي السابق. الآن توجد قوي »سياسية« في العراق تعلن أنها تمثل »الغالبية الطائفية« وتروج لأحقيتها في الحكم.. دون حاجة إلي انتخابات أصلا، ودون معركة تنتهي بفوزها! وفي الوقت الحاضر يبحث مسئول في التجمع الشيعي الكبير ما إذا كان النظام الطائفي اللبناني هو الأفضل أم النظام الماليزي »!« ويقول انه يميل إلي النموذج الماليزي، لأن في ماليزيا ثلاثة مكونات رئيسية لشعبها: الملاويون »ويشكلون ما بين 06٪ و56٪« والصينيون »ويملكون غالبية الثروات والقدرات الاقتصادية« وأقلية من الهنود. أما السبب في أن هذا المسئول في التجمع الشيعي الكبير يمثل إلي النموذج الماليزي، فهو ان لكل مكّون من الثلاثة حصة محددة في السلطة ومؤسساتها من رأس الهرم إلي قاعدته..، وكل حزب يمثل أحد هذه المكونات.. يعين من يمثله في الدولة بكل قطاعاتها!! ويبدو أن النموذج الماليزي يداعب خيال كثيرين في عالمنا العربي!! وما دامت المسألة أصبحت تتخذ شكل التقسيمات الطائفية والمذهبية، فإنه من الطبيعي ان تكون الدولة راعية المذهب هي صاحبة الكلمة العليا في الشأن العراقي. وهكذا سمح السفير الإيراني في بغداد حسن دانائي.. لنفسه بأن يصرح قائلا: ان التيارات الشيعية نسقت فيما بينها لاختيار مرشح لرئاسة الحكومات - نوري المالكي- وسيتمكن بسهولة من تشكيل الحكومة الجديدة في ضوء تأييد التحالفين الشيعي والكردستاني مما يضمن له نحو 002 صوت في البرلمان. والنظام الطائفي يخضع بالضرورة للقوي الخارجية لأن الصراع بين الطوائف يفتح الباب للعنصر الأجنبي لكي يفرض سطوته.. ولذلك فإن صفقة توزيع المناصب في العراق تمت في اجتماع في منزل السفير الأمريكي في بغداد يضم السفير وكلا من الرئيس العراقي جلال الطالباني ونوري المالكي واياد علاوي.. وخلال الاجتماع اتصل الرئيس الأمريكي باراك اوباما.. بعلاوي وتعهد له بأن يكون المجلس الأعلي للسياسات الاستراتيجية هو مصدر القرارات.. وخاصة في قضايا الأمن والسياسة الخارجية وذلك بضمانة أمريكية مباشرة، كما أكد له أن المجلس سيتمتع بصلاحيات تنفيذية ولن يكون دوره استشاريا فقط. ومعني ذلك ان مصير ومستقبل العراق وشكل الحكم وتوزيع الاختصاصات والمسئوليات.. كل ذلك يتقرر بعيدا عن الرأي العام العراقي والناخبين العراقيين. ... وتحركات عديدة جرت وتجري وراء الكواليس وفي أروقة ودهاليز كل من ظهروا في العراق بعد وصول الدبابات الأمريكية. الرئيس اوباما ونائبه جوزيف بايدن يطالبان من الطالباني ان يتخلي عن منصب الرئاسة لاياد علاوي، ولكن الطالباني ومسعود البارزاني، رئيس اقليم كردستان، يرفضان رفضا قاطعا هذا الطلب، وتتولي إيران اقناع مقتدي الصدر، زعيم الحركة الصدرية »04 نائبا« بالانضمام إلي نواب ائتلاف »دولة القانون« بزعامة نوري المالكي »98 نائبا«، لتوفير كتلة تصويتية قوية تتيح سد الطريق أمام تولي اياد علاوي رئاسة الحكومة، وتقوم ايران باقناع سوريا باسقاط تحفظاتها علي المالكي بعد ان كان المالكي يتهمها علنا بايواء ارهابيين، ويجري الزعماءالعراقيون الموالون لايران اتصالات مع القيادة الكردية لاقناعها بدعم المالكي مقابل تسهيلات ترضي الأكراد بشأن الاستفتاء علي وضع مدينة كركوك الغنية بالبترول، التي يطالب الاكراد بضمها إلي اقليم كردستان. وعندما يتحرك قادة يمارسون القمع والفساد وسماسرة يحتسبون الربح والخسارة.. فانهم يجدون انفسهم- أرادوا أو لم يريدوا أدوات في أيدي دولة أخري تجعل من بلادهم مجرد ورقة مساومة في صراعها ضد قوي تشاكسها. وهنا لابد من معاقبة كل من حاول ان ينتهج طريقا بعيدا عن الطائفية، فإذا كان اياد علاوي، صاحب الماضي الكريه، قد قرر ان ينتهج طريق العلمانية وينأي بحزبة عن التعصب المذهبي وجمع 57 مرشحا من السنّة إلي جانب 41 من الشيعة »مع انه هو نفسه من الشيعة«.. الأمر الذي اثار حماس قطاعات واسعة من الناخبين ودفعهم إلي التصويت لقائمة العراقية التي يرأسها.. وحصول قائمته علي أكبر عدد من المقاعد.. فإن هذه التجربة يجب إجهاضها.. فهي من الممنوعات في عراق اليوم! ومنصب رئيس الوزراء محجوز للرجل الذي قاد »فرق الموت« ونظم عمليات الاغتيال لخصومه السياسيين، واستخدم ما يسمي بهيئة »المساءلة والعدالة« - التي ترأسها شخصية مشبوهة وسيئة السمعة- لشطب المئات من المرشحين في انتخابات شهر مارس الماضي بحجة انهم بعثيون سابقون »وتردد ان السبب الحقيقي مذهبي، وهو انهم ينتمون إلي الطائفية السنّية!« ورغم التعاون الأمريكي- الإيراني فيما يتعلق بالعراق إلا ان النفوذ الإيراني هو الذي يزداد ويتعاظم.. والدليل علي ذلك هو صفقة توزيع المناصب الأخيرة. وكل ما اصبح يشغل الأمريكيين عقب هذه الصفقة هو اثبات انهم الذين صنعوها »!« ولذلك تحدثوا كثيرا عن الاتصالات اليومية التي كان جوزيف بايدن يجريها مع الطالباني والمالكي والبارزاني وعلاوي! والواضح ان الادارة الأمريكية كانت تخشي دائما انخراط المزيد من العناصر السنّية في المقاومة ضد الاحتلال، ولا حل لمشكلة العراق سوي اقامة مجتمع مدني وإصدار قوانين بحظر تشكيل أحزاب علي أسس طائفية أو مذهبية واقرار مبدأ المواطنة وتشكيل قوي أمنية مهنية محايدة وجيش قوي موال للدولة.. وإقامة قضاء مستقل، ويكون شغل الوظائف علي أسس تعتمد علي الكفاءة، والخبرة وليس علي المحسوبية والأصل الطائفي، العراقي في حاجة إلي نظام الدولة الأمة.. بدلا من الدولة الطائفة.