تحتار ذاكرة التاريخ عند البحث عن شعب آخر تعرض لهذا الكم الهائل من التحديات والصعاب والضغوط في انتقاله من الحكم الدكتاتوري إلي الحكم المدني الديمقراطي مثل الشعب المصري.. ومن المفارقات العجيبة محاولة بعض الخبراء والمراقبين استحضار تجربة جنوب افريقيا باعتبارها نموذجا »رائعا« للتحول السلس. لكن حقيقة الامر انه لا التجربة الديمقراطية في جنوب افريقيا بهذه الروعة ولا ظروف المجتمع المصري تتشابه مع ظروف جنوب افريقيا عندما تخلصت من حكم الاقلية البيضاء في عام 4991. وربما يكون انتقاد التجربة الديمقراطية في جنوب افريقيا أمرا يصعب تقبله من البعض لكن ما معني ان تكون هناك ديمقراطية لا تسفر أي انتخابات فيها عن فوز حزب آخر سوي حزب المؤتمر الوطني الحاكم منذ انتهاء نظام الفصل العنصري عام 4991 حتي الآن حتي يكاد هذا الحزب الحاكم يكون صورة مستنسخة من الحزب الوطني الديمقراطي السابق في مصر؟ وهل كانت الظروف في جنوب افريقيا مماثلة للظروف الداخلية والاقليمية المحيطة بمصر؟ وهل عانت جنوب افريقيا من توظيف تيارات الاسلام السياسي للخطاب الديني من اجل الوصول إلي السلطة مثلما حدث في مصر بعد سقوط نظام مبارك؟ إن الاجابة المنصفة علي هذه الاسئلة تنسف أولا أي شعور بالاعجاب بالتجربة في جنوب افريقيا وعدم جواز المقارنة بأي حال بينها وبين التجربة المصرية. إن نظرة خلفية إلي الوراء تكشف عن الاختلافات الصارخة بين جنوب افريقيا التي بدأ النظام الديمقراطي التعددي فيها منذ 81 عاما فقط ومصر التي يعود عمر التجربة الديمقراطية فيها إلي عام 3681 عندما انشأ الخديوي إسماعيل أول برلمان في مصر. كما أن مصر لم تعرف التفرقة العنصرية علي اساس اللون بخلاف جنوب افريقيا التي خضعت لهيمنة الرجل الابيض وعانت من الحكم العنصري لاكثر من ثلاثة قرون. اضافة إلي ذلك فإن قرار تصفية نظام الفصل العنصري كان قرارا طوعيا من آخر رئيس لنظام الفصل العنصري فريدريك ديكليرك بعد إدراكه بأهمية إنهاء الفصل العنصري ومشاركته بنفسه في مفاوضات تحديد طبيعة المرحلة الانتقالية. علي النقيض من ذلك تنحي الرئيس المصري الاسبق حسني مبارك بعد مظاهرات حاشدة وضغوط شعبية هائلة وهو ما لم يحدث في جنوب افريقيا. ولم يكن للجيش في جنوب افريقيا دور في انتقال السلطة. وفي المقابل كان الجيش لاعبا رئيسيا في ثورة يناير المصرية بل لقد كان هو الطرف المؤثر الاساسي عندما انحاز إلي الارادة الشعبية ضد مبارك. لقد تسلم الزعيم الجنوب افريقي نيلسون مانديلا الحكم مباشرة من نظام الفصل العنصري وورث جميع مؤسسات الدولة بعد الانتخابات ولم تكن هناك حاجة لان يلعب الجيش دورا في الحكم بخلاف ما حدث في مصر من فوضي وانفلات أمني مما جعل بقاء جيش كلاعب اساسي أمرا حتميا. عانت مصر ايضا من توظيف تيار الاسلام السياسي للخطاب الديني بشكل صارخ للوصول إلي السلطة بعد سقوط مبارك وفازت في كل الانتخابات التالية لثورة يناير فيما غاب هذا التحدي عند جنوب افريقيا التي لم تعرف وجود احزاب دينية. فقد التفت الجماهير في جنوب افريقيا حول حزب المؤتمر الوطني في ظل تاريخه النضالي السابق. ومع ذلك أسفرت فترة الحكم الديمقراطي الوليدة عن نتيجة مخيبة للآمال وهي احتكار السلطة فعليا وتجميعها في يد فصيل واحد وهو حزب المؤتمر الوطني الذي أصبح يذكرنا بحكم الحزب الديمقراطي في مصر. ويكفي القول أن الحزب يجمع في يديه كل الصلاحيات من الرئاسة إلي البرلمان والحكومة. الأدهي من ذلك هو افتقار الحزب نفسه للديمقراطية! والدليل أن انتخابات رئيس الحزب تكون من خلال الاقتراع غير المباشر عبر ما يشبه المجمع الانتخابي الذي يضم 004 شخص فقط. ولان الحزب هو المهيمن علي البرلمان ولان البرلمان هو الذي يختار رئيس البلاد فإن رئيس الحزب الذي انتخب من 0004 شخص فقط يصبح هو رئيس البلاد!! إن هذه الاوضاع المرتبكة والاحوال العجيبة تضعف الفرص وتسد الافق أمام أي تغيير سلمي للحكم عن طريق الانتخابات. وأفضي ذلك إلي ظاهرة انخفاض نسبة المشاركة في التصويت. وربما تكون هذه الاوضاع الداخلية في الحزب والبلاد بين الاسباب وراء حساسية حكام جنوب افريقيا وتحفظهم الشديد علي التغييرات السلمية في مصر لانها تنذر بخطورة تكرارها في جنوب افريقيا علي المدي الطويل خاصة لان آليات السلطة والحكم ترسخ لبقاء الحكام الحاليين لسنوات طويلة. ويبرز الوضع الواهن في أسوأ صوره في وجود الرئيس جوكوب زوما الذي يبلغ من العمر 07 عاما. وفي ديسمبر 2012 انتخب الحزب زوما رئيسا له للمرة الثانية. يعني هذا انه سيبقي في منصب رئيس الحزب حتي عام 7102 وهو ما يعني أنه سيفوز برئاسة البلاد في انتخابات عام 4102 ليبقي رئيسا للبلاد حتي عام 2019! وتنذر هذه الاوضاع بكوارث سياسية بدأت تظهر بشائرها في عمليات قتل الخصوم والمعارضين للرئيس جاكوب زوما خاصة قبل المؤتمر العام الاخير للحزب في ديسمبر الماضي. كما أفرزت مناخا يساعد علي الفساد وتحولت سياسة التمكين للسود التي وضعت لتحسين الوضع الاقتصادي للأغلبية السوداء وسيلة لإثراء كبار أعضاء الحزب والمرتبطين به من رجال الاعمال. لقد ولدت هذه المشاكل اقتناعا عاما خاصة بين الاقلية السوداء بأن ثمار الحكم الديمقراطي ذهبت بالاساس إلي حزب المؤتمر الوطني الحاكم ورجال الاعمال. وترتب علي ذلك موجة من المظاهرات التي يشوبها العنف في بعض الاحيان علي مدار العامين الماضيين للاحتجاج بشكل أساسي ضد الفقر والفساد وسوء توزيع ثروات البلاد. إن هذه النظرة السريعة علي الاوضاع السياسية في جنوب افريقيا تدفع الكثيرين للقول بان هناك حاجة إلي مانديلا جديد يعيد إلي ديمقراطية جنوب افريقيا وجهها الانساني الراقي. لقد ضرب نيلسون مانديلا مثالا راقيا للنضال السلمي واشرف بنفسه علي المصالحة بين البيض والسود واختار ان يكون رمزا عالميا للنضال من أجل الحرية بدلا من التشبث بالسلطة ومحاولة الثراء وتمكين حزب واحد من التحكم في مصير البلاد واغلاق أي افق للتغيير السياسي الديمقراطي كما يفعل الزعماء الحاليون.